فصل: (بَابُ خِيَارِ الشَّرْطِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(بَابُ خِيَارِ الشَّرْطِ):

قَالَ: (خِيَارُ الشَّرْطِ جَائِزٌ فِي الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَلَهُمَا الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا) وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ: «أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُغْبَنُ فِي الْبِيَاعَاتِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ وَلِي الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ».
(وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَهُوَ قول زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَا (يَجُوزُ إذَا سَمَّى مُدَّةً مَعْلُومَةً لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ أَجَازَ الْخِيَارَ إلَى شَهْرَيْنِ)؛ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّرَوِّي لِيَنْدَفِعَ الْغَبْنُ، وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الْأَكْثَرِ فَصَارَ كَالتَّأْجِيلِ فِي الثَّمَنِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ اللُّزُومُ، وَإِنَّمَا جَوَّزْنَاهُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ النَّصِّ، فَيُقْتَصَرُ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ وَانْتَفَتْ الزِّيَادَةُ.
(إلَّا أَنَّهُ إذَا أَجَازَ فِي الثَّلَاثِ) جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِزُفَرِ، هُوَ يَقول: إنَّهُ انْعَقَدَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا.
وَلَهُ أَنَّهُ أَسْقَطَ الْمُفْسِدَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ فَيَعُودُ جَائِزًا كَمَا إذَا بَاعَ بِالرَّقْمِ وَأَعْلَمَهُ فِي الْمَجْلِسِ.
وَلِأَنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، فَإِذَا أَجَازَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَتَّصِلْ الْمُفْسِدُ بِالْعَقْدِ، وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ الْعَقْدَ يَفْسُدُ بِمُضِيِّ جُزْءٍ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَقِيلَ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا ثُمَّ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ بِحَذْفِ الشَّرْطِ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ خِيَارِ الشَّرْطِ).
قَدْ عُرِفَ أَنَّ الْبَيْعَ عِلَّةٌ لِحِكْمَةِ لُزُومِ تَعَاكُسِ الْمِلْكَيْنِ فِي الْبَدَلَيْنِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَتَخَلَّفَ حُكْمُ الْعِلَّةِ عَنْهَا فَقَدَّمَ مَا هُوَ الْأَصْلُ.
ثُمَّ شَرَعَ يَذْكُرُ مَا تَعَلَّقَ بِالْعِلَّةِ الَّتِي تَخَلَّفَ عَنْهَا مُقْتَضَاهَا، وَهُوَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَظَهَرَ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ مَانِعٌ ثَابِتٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ، وَيُقَالُ لِلْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا، وَلِلْمُسْتَلْزِمِ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ مِنْ اصْطِلَاحِهِمْ فِي الْأُصُولِ.
وَالْمَوَانِعُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: مَانِعٌ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ وَهُوَ حُرِّيَّةُ الْمَبِيعِ فَلَا يَنْعَقِدُ الْمَبِيعُ فِي الْحُرِّ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إلَّا فِي مَحَلِّهَا، وَمَحَلُّ الْبَيْعِ الْمَالُ وَالْحُرُّ لَيْسَ بِمَالٍ، فَلَا وُجُودَ لِلْبَيْعِ أَصْلًا فِيهِ كَانْقِطَاعِ الْوَتَرِ يَمْنَعُ أَصْلَ الرَّمْيِ بَعْدَ الْقَصْدِ إلَيْهِ.
وَمَانِعٌ يَمْنَعُ تَمَامَ الْعِلَّةِ وَهُوَ الْبَيْعُ الْمُضَافُ إلَى مَالِ الْغَيْرِ كَإِصَابَةِ السَّهْمِ بَعْدَ الرَّمْيِ حَائِطًا فَرَدَّهُ عَنْ سَنَنِهِ.
وَمَانِعٌ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْعِلَّةِ وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِهِ وَهُوَ خُرُوجُ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ عَلَى مِثَالِ اسْتِتَارِ الْمُرْمَى إلَيْهِ بِتِرْسٍ يَمْنَعُ مِنْ إصَابَةِ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَمَانِعٌ يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لِلْمُشْتَرِي.
وَمَانِعٌ يَمْنَعُ لُزُومَهُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَإِضَافَةُ الْخِيَارِ إلَى الشَّرْطِ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِضَافَةِ، وَهِيَ إضَافَةُ الْخِيَارِ إلَى سَبَبِهِ إذْ سَبَبُهُ الشَّرْطُ، وَحِينَ وَرَدَ شَرْعِيَّتُهُ جَعَلْنَاهُ دَاخِلًا فِي الْحُكْمِ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِهِ تَقْلِيلًا لِعَمَلِهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ إثْبَاتُ الْحَظْرِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَبِذَلِكَ يُشْبِهُ الْقِمَارَ فَقَلَّلْنَا شَبَهَهُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقول: الْقِمَارُ مَا حَرُمَ لِمَعْنَى الْحَظْرِ، بَلْ بِاعْتِبَارِ تَعْلِيقِ الْمِلْكِ بِمَا لَمْ يَضَعْهُ الشَّرْعُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَضَعْ ظُهُورَ الْعَدَدِ الْفُلَانِيِّ فِي وَرَقَةٍ مَثَلًا سَبَبًا لِلْمِلْكِ، وَالْحَظْرُ طَرْدٌ فِي ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ.
نَعَمْ يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ اعْتَبَرْنَاهُ فِي الْحُكْمِ تَقْلِيلًا، بِخِلَافِ الْأَصْلِ وَأَمَّا كَوْنُهُ فِيهِ غَرَرٌ وَقَدْ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ فَذَلِكَ الْغَرَرُ فِي الْمَبِيعِ، وَهَذَا فِي أَنَّ الْمِلْكَ هَلْ يَثْبُتُ أَوْ لَا.
قولهُ: (خِيَارُ الشَّرْطِ جَائِزٌ فِي الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَلَهُمَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ) يُرْوَى بِنَصْبِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى الظَّرْفِ: أَيْ فِي ثَلَاثَةٍ وَبِرَفْعِهَا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ هُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ.
ثُمَّ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: إذَا شُرِطَ الْخِيَارُ لَهُمَا لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَقْدِ أَصْلًا وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَالصَّحِيحِ.
قولهُ: (وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُغْبَنُ فِي الْبِيَاعَاتِ) الْحَدِيثَ.
رَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ حِبَّانُ بْنُ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرٍو رَجُلًا ضَعِيفًا، وَكَانَ قَدْ أَصَابَتْهُ فِي رَأْسِهِ مَأْمُومَةٌ فَجَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخِيَارَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِيمَا اشْتَرَاهُ، وَكَانَ قَدْ ثَقُلَ لِسَانُهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِعْ وَقُلْ لَا خِلَابَةَ» وَكَانَ يَشْتَرِي الشَّيْءَ فَيَجِيءُ بِهِ إلَى أَهْلِهِ فَيَقولونَ لَهُ هَذَا غَالٍ فَيَقول: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَيَّرَنِي فِي بَيْعِي وَسَكَتَ عَلَيْهِ.
وَحَبَّانُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَمُنْقِذٌ بِالْمُعْجَمَةِ.
وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ:
أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْأَصْلُ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ أَنَّهُ فَاسِدٌ، وَلَكِنْ لَمَّا شَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُصَرَّاةِ خِيَارَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْبَيْعِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ جَعَلَ لِحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ خِيَارَ ثَلَاثَةٍ فِيمَا ابْتَاعَ انْتَهَيْنَا إلَى مَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: «سَمِعْت رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ يَشْكُو إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يُزَالُ يُغْبَنُ فِي الْبُيُوعِ، فَقَالَ لَهُ: إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ ثُمَّ أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ ابْتَعْتهَا ثَلَاثَ لَيَالٍ» قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ قَالَ: كَانَ جَدِّي مُنْقِذُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ أُصِيبَ فِي رَأْسِهِ وَكَانَ يُغْبَنُ فِي الْبَيْعِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ قَالَ: كَانَ جَدِّي مُنْقِذَ بْنَ عَمْرٍو وَكَانَ قَدْ أَصَابَهُ آمَةٌ فِي رَأْسِهِ فَكَسَرَتْ لِسَانَهُ، وَكَانَ لَا يَدَعُ عَلَى ذَلِكَ التِّجَارَةَ وَكَانَ لَا يُزَالُ يُغْبَنُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ.
الْحَدِيثَ.
وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَقول لَهُ مُنْقِذُ بْنُ عَمْرٍو، لَا حِبَّانُ ابْنُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مُنْقَطِعٌ، وَغَلَطُ مَنْ عَزَاهُ لِأَبِي دَاوُد، وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْأَوْسَطِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ قَالَ: كَانَ جَدِّي مُنْقِذُ بْنُ عَمْرٍو فَذَكَرَهُ قَالَ: وَعَاشَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَالْحَدِيثُ وَإِنْ دَار عَلَى ابْنِ إِسْحَاقَ فَالْأَكْثَرُ عَلَى تَوْثِيقِهِ، وَرَجَعَ مَالِكٌ عَمَّا قَالَ فِيهِ ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ فِي الرَّوْضِ الْأَنِفِ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُنْقِذِ بْنِ عَمْرٍو «قُلْ لَا خِلَابَةَ، وَإِذَا بِعْت بَيْعًا فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ» وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ الْوَاقِعَةِ لِحِبَّانَ أَرْجَحَ؛ لِأَنَّ هَذَا مُنْقَطِعٌ وَذَلِكَ مَوْصُولٌ، هَذَا وَشَرْطُ الْخِيَارِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي الْمُوَطَّإِ وَالصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَقَالَ: إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ» وَالْخِلَابَةُ الْخَدِيعَةُ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَقْصُودِ؛ وَالْعَجَبُ مِمَّنْ قَالَ الْأَصْلُ فِي جَوَازِ شَرْطِ الْخِيَارِ ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ وَهُوَ لَا يَمَسُّ الْمَطْلُوبَ.
فَرْعٌ:
يَجُوزُ إلْحَاقُ خِيَارِ الشَّرْطِ بِالْبَيْعِ، لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْبَيْعِ وَلَوْ بِأَيَّامٍ جَعَلْتُك بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ صَحَّ بِالْإِجْمَاعِ، حَتَّى لَوْ شُرِطَ الْخِيَارُ بَعْدَ الْبَيْعِ الْبَاتِّ شَهْرًا وَرَضِيَا بِهِ فَسَدَ الْعَقْدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَلَوْ أَلْحَقَا بِهِ شَرْطًا فَاسِدًا بَطَلَ الشَّرْطُ، وَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي قولهِمَا وَيَفْسُدُ فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْ بَاعَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَغِلَّهُ وَيَسْتَخْدِمَهُ جَازَ وَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ.
وَلَوْ قَالَ فِي بَيْعِ بُسْتَانٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرَتِهِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ قَبْلَ أَنْ يُسْقِطَ الْمُشْتَرِي خِيَارَهُ.
وَلَوْ قَالَ لَهُ أَنْتَ بِالْخِيَارِ كَانَ لَهُ خِيَارُ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَقَطْ، وَلَوْ قَالَ إلَى الظُّهْرِ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْتَمِرُّ لَهُ إلَى أَنْ يَخْرُجَ وَقْتُ الظُّهْرِ، وَعِنْدَهُمَا لَا تَدْخُلُ الْغَايَةُ.
قولهُ: (وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْهَا) أَيْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَهُوَ قول زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ) وَكَمَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إذَا أَطْلَقَ (وَقَالَا: يَجُوزُ إذَا سَمَّى مُدَّةً مَعْلُومَةً لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَجَازَ الْبَيْعَ إلَى شَهْرَيْنِ) وَهَذَا دَلِيلُ جُزْءِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ جَوَّزَهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ يُفِيدُ جَوَازَ أَكْثَرَ مِنْ الثَّلَاثَةِ بِمُدَّةٍ خَاصَّةٍ لَا غَيْرُ (لِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّرَوِّي لِيَنْدَفِعَ الْغَبْنُ، وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الْأَكْثَرِ فَصَارَ كَالتَّأْجِيلِ فِي الثَّمَنِ) شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّأْخِيرِ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، ثُمَّ جَازَ أَيُّ مِقْدَارٍ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ وَبِقولهِمَا قَالَ أَحْمَدُ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ».
وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا لَا يَبْقَى أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ كَالْفَاكِهَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ الْخِيَارُ فِي أَكْثَرِ مِنْ يَوْمٍ، وَإِنْ كَانَ ضَيْعَةً لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَتَعَيَّنْ اشْتِرَاطُ الْأَكْثَرِ طَرِيقًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لِإِمْكَانِ أَنْ يَذْهَبَ فَيَرَاهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ ثُمَّ يَشْتَرِيَ لَا حَاجَةَ إلَى شَرْطِ الْخِيَارِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ ثَابِتٌ لَهُ وَلَوْ تَأَخَّرَتْ رُؤْيَتُهُ سَنَةً، وَإِنْ كَانَ لِلتَّرَوِّي فِي أَمْرِهَا هَلْ تُسَاوِي الثَّمَنَ الْمَذْكُورَ أَوْ لَا أَوْ هِيَ مُنْتَفَعٌ بِهَا عَلَى الْكَمَالِ أَوْ لَا وَإِنْ لَمْ يَرَهَا؟ فَهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِالسُّؤَالِ وَالْمُرَاجَعَةِ لِلنَّاسِ الْعَارِفِينَ وَذَلِكَ يَحْصُلُ فِي مُدَّةِ الثَّلَاثِ.
وَأَمَّا مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ بِفَسَادٍ فَحُكْمُهُ مَسْطُورٌ.
فِي فَتَاوَى الْقَاضِي: اشْتَرَى شَيْئًا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْقِيَاسِ لَا يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى شَيْءٍ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي إمَّا أَنْ تَفْسَخَ الْبَيْعَ وَإِمَّا أَنْ تَأْخُذَ الْمَبِيعَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْك مِنْ الثَّمَنِ حَتَّى تُجِيزَ الْبَيْعَ أَوْ يَفْسُدَ الْمَبِيعُ عِنْدَك دَفْعًا لِلضَّرَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ ادَّعَى فِي يَدِ رَجُلٍ بِشِرَاءِ شَيْءٍ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَالسَّمَكَةِ الطَّرِيَّةِ وَجَحَدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ وَيُخَافُ فَسَادُهَا فِي مُدَّةِ التَّزْكِيَةِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُ مُدَّعِي الشِّرَاءِ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ وَيَأْخُذَ السَّمَكَةَ ثُمَّ الْقَاضِي يَبِيعُهَا مِنْ آخَرَ وَيَأْخُذُ ثَمَنَهَا وَيَضَعُ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِي عَلَى يَدِ عَدْلٍ، فَإِنْ عُدِّلَتْ الْبَيِّنَةُ يُقْضَى لِمُدَّعِي الشِّرَاءِ بِالثَّمَنِ الثَّانِي وَيَدْفَعُ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ لِلْبَائِعِ؛ وَلَوْ ضَاعَ الثَّمَنَانِ عِنْدَ الْعَدْلِ يَضِيعُ الثَّمَنُ الثَّانِي مِنْ مَالِ مُدَّعِي الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْقَاضِي كَبَيْعِهِ، وَلَوْ لَمْ تَعْدِلْ الْبَيِّنَةُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَةَ السَّمَكَةِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَثْبُتْ وَبَقِيَ آخِذًا مَالَ الْغَيْرِ بِجِهَةِ الْبَيْعِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ.
وَجْهُ قول أَبِي حَنِيفَةَ (أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ اللُّزُومُ) ثَبَتَ نَصًّا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِلتَّرَوِّي فِيمَا يَدْفَعُ الْغَبْنَ عَنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّظَرَ لِاسْتِكْشَافِ كَوْنِهِ فِي هَذَا الْمَبِيعِ مَغْبُونًا أَوْ غَيْرَ مَغْبُونٍ مِمَّا يَتِمُّ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَلْ فِي أَقَلَّ مِنْهَا؛ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ كَوْنِهِ مَغْبُونًا فِي هَذِهِ الصَّفْقَةِ أَوْ لَا لَيْسَ مِنْ الْعُلُومِ الْبَالِغَةِ فِي الْخَفَاءِ وَالْإِشْكَالِ لِيَحْتَاجَ فِي حُصُولِهِ إلَى مُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَيْهَا، فَكَانَ الزَّائِدُ عَلَى الثَّلَاثِ لَيْسَ فِي مَحِلِّ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لِحُصُولِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُهُ بِالثَّلَاثِ دَلَالَةً كَمَا لَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ.
وَلَوْ فُرِضَ مِنْ الْغَبَاوَةِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَفِيدُ كَوْنَهُ مَغْبُونًا لَمْ يُعْذَرْ، وَلَا يُبْنَى الْفِقْهُ بِاعْتِبَارِهِ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ زَائِلُ الْعَقْلِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ فِي قول ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ فِي حَدِيثِ حِبَّانَ إنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ضَرَبَ الثَّلَاثَ لِمَنْ كَانَتْ غَايَةً فِي ضَعْفِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي أَمْرِ حِبَّانَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا ضَعِيفًا وَكَانَ بِدِمَاغِهِ مَأْمُومَةٌ أَفْسَدَتْ، أَوْ أَنَّهُ مُنْقِذٌ وَكَانَ قَدْ أَصَابَتْهُ آمَةٌ فِي رَأْسِهِ فَكَسَرَتْ لِسَانَهُ وَنَازَعَتْ عَقْلَهُ وَبَلَغَ مِنْ السِّنِّ مِائَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً كَمَا فِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ الْأَوْسَطِ، فَأَيُّ حَالَةٍ تَزِيدُ عَلَى هَذِهِ مِنْ الضَّعْفِ إلَّا عَدَمُ الْعَقْلِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا شَكَّ فِي مَنْعِ الزَّائِدِ مَعَ أَنَّهُ وُجِدَ فِي السَّمْعِ مَا يَنْفِيهِ صَرِيحًا، وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْحُجَّةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ بَعْدَ تَمَامِ الْحُجَّةِ، وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ بَعِيرًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ الْخِيَارَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْعَ وَقَالَ: الْخِيَارُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ» إلَّا أَنَّهُ أُعِلَّ بِأَبَانَ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَكَذَا أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ» وَفِيهِ أَحْمَدُ بْنُ مَيْسَرَةَ مَتْرُوكٌ.
وَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ فَلَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْآثَارِ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْأَجَلِ فَنَقول بِمُوجِبِهِ وَلَا يَضُرُّنَا، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمَّا شَرَعَ الْأَجَلَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ شَرَعَهُ مُطْلَقًا فَعَمِلْنَا بِإِطْلَاقِهِ، وَهُنَا لَمَّا شَرَعَ الْخِيَارَ شَرَعَهُ مُقَيَّدًا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ بِثَلَاثِ لَيَالٍ فَعَمِلْنَا بِتَقْيِيدِهِ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ شَرَعَ الْأَجَلَ أَيْضًا مُقَيَّدًا بِمُدَّةٍ كُنَّا نَقول لَا يُزَادُ عَلَيْهَا أَيْضًا، وَلِوُجُوبِ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ نُقِلَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْخِيَارِ مَا وَرَدَ إلَّا لِلْمُشْتَرِي.
قُلْنَا: مَمْنُوعٌ بَلْ لِلْأَعَمِّ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَه: «إذَا بَايَعْت» وَهُوَ يَصْدُقُ بِكَوْنِهِ بَائِعًا وَمُشْتَرِيًا.
قولهُ: (إلَّا أَنَّهُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قولهِ وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْهَا: أَيْ لَا يَجُوزُ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ إلَّا فِي وَقْتِ إجَازَتِهِ دَاخِلَ الثَّلَاثَةِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خِلَافًا لِزُفَرَ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ (هُوَ) أَيْ زُفَرُ (يَقول إنَّهُ) أَيْ الْعَقْدُ (انْعَقَدَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا) كَمَا إذَا بَاعَ الدِّرْهَمَ بِدِرْهَمَيْنِ ثُمَّ أَسْقَطَ الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ لَا يَقَعُ صَحِيحًا، أَوْ بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفٍ وَرِطْلٍ خَمْرًا ثُمَّ أَسْقَطَ الْخَمْرَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ عَلَى حَسَبِ الثُّبُوتِ فَإِنَّ الْبَاقِيَ هُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ ثَبَتَ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ) أَيْ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ (أَسْقَطَ الْمُفْسِدَ) وَهُوَ اشْتِرَاطُ الْيَوْمِ الرَّابِعِ (قَبْلَ تَقَرُّرِهِ) أَيْ قَبْلَ ثُبُوتِهِ وَتَحَقُّقِهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِمُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَيَعُودُ جَائِزًا (كَمَا إذَا بَاعَ بِالرَّقْمِ وَعَلِمَهُ بِالْمَجْلِسِ فَرَضِيَ بِهِ) وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ لَيْسَ هُوَ شَرْطُ الْخِيَارِ، بَلْ وَصْلُهُ بِالرَّابِعِ وَهُوَ بِعَرْضِ الْفَصْلِ قَبْلَ مَجِيئِهِ، فَإِذَا أَسْقَطَهُ فَقَدْ تَحَقَّقَ زَوَالُ الْمَعْنَى الْمُفْسِدِ قَبْلَ مَجِيئِهِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي حُكْمِ هَذَا الْعَقْدِ فِي الِابْتِدَاءِ، فَعِنْدَ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ حُكْمُهُ الْفَسَادُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ إذْ الظَّاهِرُ دَوَامُهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، فَإِذَا أَسْقَطَهُ تَبَيَّنَ الْأَمْرُ خِلَافَ الظَّاهِرِ فَيَنْقَلِبُ صَحِيحًا، وَقَالَ مَشَايِخُ خُرَاسَانَ وَالْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ: هُوَ مَوْقُوفٌ، وَبِالْإِسْقَاطِ قَبْلَ الرَّابِعِ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا، وَإِذَا مَضَى جُزْءٌ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَسَدَ الْعَقْدُ الْآنَ وَهُوَ الْأَوْجَهُ، كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ وَالذَّخِيرَةِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ نَصًّا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَيْعَ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمُشْتَرِي وَأَثْبَتَ لِلْبَائِعِ حَقَّ الْفَسْخِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ حَقُّ الْفَسْخِ فِي الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى بِحَسَبِ الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ إلَّا عَدَمَ الْفَسَادِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إلَى أَنْ يَدْخُلَ الرَّابِعُ فَيَثْبُتُ الْفَسَادُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَحَقِيقَةُ الْقوليْنِ لَا فَسَادَ قَبْلَ الرَّابِعِ بَلْ مَوْقُوفٌ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ أَنَّ الْفَسَادَ ثَابِتٌ عَلَى وَجْهٍ شَرْعًا بِإِسْقَاطِهِ خِيَارَ الرَّابِعِ قَبْلَ مَجِيئُهُ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْهِدَايَةِ حَيْثُ قَالَ: يَنْعَقِدُ فَاسِدًا ثُمَّ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ بِحَذْفِ الشَّرْطِ.
وَقولهُ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: يَعْنِي قولهُ أَسْقَطَ الْمُفْسِدَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ وَهُوَ كَالْقَلْبِ، فَإِنَّ التَّعْلِيلَ هُوَ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ لَا أَنَّ أَصْلَ الْقَاعِدَةِ يَنْبَنِي عَلَى التَّعْلِيلِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْمَسَائِلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا لِزُفَرَ أَنَّ الْفَسَادَ فِيهَا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبِ الْمَبِيعِ وَهُوَ الْبَدَلُ فَلَمْ يُمْكِنْ رَفْعُهُ وَهُنَا فِي شَرْطِهِ، وَكَمَا يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ جَائِزًا إذَا أَسْقَطَ الْخِيَارَ قَبْلَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ كَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ أَوْ مَاتَ الْعَبْدُ أَوْ الْمُشْتَرِي أَوْ أَحْدَثَ بِهِ مَا يُوجِبُ لُزُومَ الْبَيْعِ يَنْقَلِبُ جَائِزًا فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ.

متن الهداية:
(وَلَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا جَازَ وَإِلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ نَقَدَ فِي الثَّلَاثِ جَازَ فِي قولهِمْ جَمِيعًا) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ إذْ الْحَاجَةُ مَسَّتْ إلَى الِانْفِسَاخِ عِنْدَ عَدَمِ النَّقْدِ تَحَرُّزًا عَنْ الْمُمَاطَلَةِ فِي الْفَسْخِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِهِ.
وَقَدْ مَرَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْمُلْحَقِ بِهِ، وَنَفَى الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ وَكَذَا مُحَمَّدٌ فِي تَجْوِيزِ الزِّيَادَةِ.
وَأَبُو يُوسُفَ أَخَذَ فِي الْأَصْلِ بِالْأَثَرِ.
وَفِي هَذَا بِالْقِيَاسِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قِيَاسٌ آخَرُ وَإِلَيْهِ مَال زُفَرُ وَهُوَ أَنَّهُ بَيْعٌ شُرِطَ فِيهِ إقَالَةٌ فَاسِدَةٌ لِتَعَلُّقِهَا بِالشَّرْطِ، وَاشْتِرَاطُ الصَّحِيحِ مِنْهَا فِيهِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، فَاشْتِرَاطُ الْفَاسِدِ أَوْلَى وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا بَيَّنَّا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَنَا جَازَ) وَالْمُنْتَفِعُ بِهَذَا الشَّرْطِ هُنَا هُوَ الْبَائِعُ، وَكَذَا لَوْ قَبَضَ الثَّمَنَ وَقَالَ إنْ رَدَّهُ الْبَائِعُ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ.
يَجُوزُ هَذَا الْبَيْعُ بِهَذَا الشَّرْطِ وَيَصِيرُ كَخِيَارِ الشَّرْطِ حَتَّى إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ.
وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ.
وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْبَائِعُ نَفَذَ (وَإِلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) فَإِنْ نَقَدَ الثَّمَنَ قَبْلَ مُضِيِّ الثَّلَاثَةِ تَمَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُدْهُ فِيهَا فَسَدَ الْبَيْعُ وَلَا يَنْفَسِخُ نَصَّ عَلَيْهِ ظَهِيرُ الدِّينِ وَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ حِفْظِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي وَهُوَ فِي يَدِهِ عَتَقَ لَا إنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَأَكْثَرَ) عَلَى قِيَاسِ قولهِ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ (فَإِنْ دَفَعَ الثَّمَنَ فِي الثَّلَاثَةِ جَازَ فِي قولهِمْ جَمِيعًا. وَالْأَصْلُ فِيهِ) أَيْ فِي صِحَّةِ هَذَا الْبَيْعِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الثَّمَنِ (أَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فَيُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً لَا قِيَاسًا وَالدَّلَالَةُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا سِوَى التَّسَاوِي) وَفَهْمُ الْمُلْحَقِ بِمُجَرَّدِ فَهْمِ الْأَصْلِ مَعَ فَهْمِ الْأَصْلِ مَعَ فَهْمِ اللُّغَةِ، وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ صِحَّةَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِلتَّرَوِّي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِكُلٍّ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ تَبَادَرَ إلَيْهِ أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ لِلتَّرَوِّي لِدَفْعِ ضَرَرِ الْغَبْنِ فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فَيَتَبَادَرُ إلَيْهِ جَوَازُهُ لِدَفْعِ الْغَبْنِ فِي الثَّمَنِ لِلْمُمَاطَلَةِ.
وَكَوْنُ هَذَا يَنْفَسِخُ بِتَمَامِ الْمُدَّةِ قَبْلَ دَفْعِ الثَّمَنِ وَذَاكَ يَنْبَرِمُ بِتَمَامِهَا بِلَا رَدٍّ لَا أَثَرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الدَّلَالَةِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْجَامِعِ الَّذِي يَفْهَمُهُ مَنْ فَهِمَ اللُّغَةَ.
إلَّا أَنَّك سَمِعْت أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِتَمَامِهَا بَلْ يَرْجِعُ فَاسِدًا (وَقَدْ مَرَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْمُلْحَقِ بِهِ) وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ، وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ حَيْثُ جَعَلَهُ جَائِزًا بِلَا تَقْيِيدٍ بِمُدَّةٍ، وَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ فَأَخَذَ فِي الْأَصْلِ بِالْأَثَرِ: يَعْنِي أَثَرَ ابْنِ عُمَرَ فِي جَوَازِ شَرْطِ الْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَأَخَذَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْقِيَاسِ: أَيْ فِي نَفْيِ الزَّائِدِ عَلَى الثَّلَاثَةِ.
وَأَمَّا فِي الثَّلَاثَةِ فَبِحَدِيثِ ابْنِ الْبَرْصَاءِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ لَهُ فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ.
هَذَا مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ هُنَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى قول مُحَمَّدٍ رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْهُ.
وَفِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ لَمْ يُرَجِّحُوا عَنْهُ شَيْئًا وَحَكَمُوا عَلَى قولهِ بِالِاضْطِرَابِ (وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قِيَاسٌ آخَرُ) يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ هَذَا الْبَيْعُ أَصْلًا (وَهُوَ أَنَّهُ بَيْعٌ شُرِطَتْ فِيهِ إقَالَةٌ فَاسِدَةٌ لِتَعَلُّقِهَا بِالشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ دَفْعِ الثَّمَنِ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ، وَالْإِقَالَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ)؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ حَتَّى جُعِلَتْ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقٍّ ثَالِثٍ، وَهُوَ لَوْ شَرَطَ الْإِقَالَةَ الصَّحِيحَةَ وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَعْلَقْ بِالشَّرْطِ قَالَ بِعْتُك عَلَى أَنْ أُقِيلُك وَتَقْبَلُهَا أَوْ قَالَ اشْتَرَيْت مِنْك عَلَى أَنْ تُقِيلَنِي لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ (فَاشْتِرَاطُ الْفَاسِدَةِ أَوْلَى) وَبِهَذَا الْقِيَاسِ قَالَ زُفَرُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، فَكُلُّهُمْ مَنَعُوا صِحَّةَ الْبَيْعِ.
وَالْوَجْهُ عَلَيْهِمْ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْإِلْحَاقِ بِالدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقول الْمُصَنِّفِ: وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا بَيَّنَّاهُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَخِيَارُ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ)؛ لِأَنَّ تَمَامَ هَذَا السَّبَبِ بِالْمُرَاضَاةِ وَلَا يَتِمُّ مَعَ الْخِيَارِ وَلِهَذَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ.
وَلَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي التَّصَرُّفَ فِيهِ وَإِنْ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ (وَلَوْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَهَلَكَ فِي يَدِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ضَمِنَهُ بِالْقِيمَةِ)؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْقُوفًا، وَلَا نَفَاذَ بِدُونِ الْمَحَلِّ فَبَقِيَ مَقْبُوضًا فِي يَدِهِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَفِيهِ الْقِيمَةُ، وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ الْمُطْلَقِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَخِيَارُ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ هَذَا السَّبَبِ) الَّذِي هُوَ الْبَيْعُ (بِالْمُرَاضَاةِ) لِمَا عُرِفَ مِنْ قوله تعالى: {إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (وَلَا يَتِمُّ) الرِّضَا (مَعَ الْخِيَارِ)؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ عَدَمَ الرِّضَا بِزَوَالِ مِلْكِهِ فَلَمْ يَتِمَّ السَّبَبُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ إلَّا مَعَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الرِّضَا فَلَا يُوجِبُ حُكْمَهُ فِي حَقِّهِ فَلَا يَخْرُجُ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِهِ؛ فَلِهَذَا جَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ فَنَفَذَ عِتْقُهُ فِيهِ وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَلَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي التَّصَرُّفَ فِيهِ وَإِنْ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ لِبَقَاءِ مِلْكِ الْبَائِعِ فِيهِ بِلَا اخْتِلَالٍ، وَبِالتَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ يُعْرَفُ أَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ خُرُوجَ الثَّمَنِ عَنْ مِلْكِهِ لِاتِّحَادِ نِسْبَتِهِ إلَى كُلِّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، وَأَنَّهُ إذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا لَا يَخْرُجُ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَا الثَّمَنُ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي؛ وَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ وَكَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ (فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ضَمِنَهُ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْقُوفًا) فِي حَقِّ الْمَبِيعِ، وَلَا يُمْكِنُ نَفَاذُهُ بِالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّهُ (لَا نَفَاذَ بِلَا مَحَلٍّ فَبَقِيَ) فِي يَدِ الْمُشْتَرِي (مَقْبُوضًا) لَا عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ الْمَحْضَةِ كَالْوَدِيعَةِ وَالْإِعَارَةِ كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ الْبَائِعُ بِقَبْضِهِ إلَّا عَلَى جِهَةِ الْعَقْدِ فَأَقَلُّ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ كَالْمَقْبُوضِ (عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَفِي) الْمَقْبُوضِ عَلَى (سَوْمِ الشِّرَاءِ الْقِيمَةُ) إذَا هَلَكَ وَهُوَ قِيَمِيٌّ وَالْمِثْلُ فِي الْمِثْلِيِّ إذَا كَانَ الْقَبْضُ بَعْدَ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ، أَمَّا إذَا لَمْ يُسَمَّ ثَمَنٌ فَلَا ضَمَانَ فِي الصَّحِيحِ.
وَعَلَيْهِ فَرْعُ مَا ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي الْعُيُونِ: فِي رَجُلٍ أَخَذَ ثَوْبًا فَقَالَ اذْهَبْ بِهِ فَإِنْ رَضِيته اشْتَرَيْته فَضَاعَ فِي يَدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ قَالَ إنْ رَضِيته اشْتَرَيْته بِعَشْرَةٍ كَانَ ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ، وَبِثُبُوتِ الضَّمَانِ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي هَذَا الْبَيْعِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ؛ وَعِنْدَهُمْ وَجْهٌ فِي ضَمَانِهِ بِالثَّمَنِ، وَهُوَ قِيَاسُ قول أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ يَخْرُجُ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَمَّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ ثُبُوتُ حَقِّ الْفَسْخِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ حَقِّ الْفَسْخِ انْتِفَاءُ حَقِّ الْمِلْكِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ.
قُلْنَا: قولك تَمَّ الْبَيْعُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ إنْ أَرَدْت فِي حَقِّ حُكْمِهِ مَنَعْنَاهُ أَوْ تَمَّتْ صُورَتُهُ فَمُسَلَّمٌ، وَلَا يُفِيدُ فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ حَتَّى يُوجَدَ شَرْطُ عَمَلِهِ وَهُوَ تَمَامُ الرِّضَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَتَقْيِيدُ الْمُصَنِّفِ الْهَلَاكَ بِكَوْنِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِيَخْرُجَ مَا إذَا هَلَكَ بَعْدَهَا، وَأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَضْمَنُ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ بَعْدَمَا انْبَرَمَ الْبَيْعُ لِعَدَمِ فَسْخِ الْبَائِعِ فِي الْمُدَّةِ (وَلَوْ هَلَكَ) الْمَبِيعُ (فِي يَدِ الْبَائِعِ) وَالْحَالُ أَنَّ الْخِيَارَ لَهُ لَا إشْكَالَ فِي أَنَّهُ يَنْفَسِخُ (وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ الْمُطْلَقِ) عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّ فِيهِ: إذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَالتَّقْيِيدُ بِالصَّحِيحِ لَيْسَ لِإِخْرَاجِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ الْحَالَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَذَلِكَ أَعْنِي الِانْفِسَاخَ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، بَلْ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ الْأَصَالَةُ وَالْفَاسِدُ يَأْخُذُ حُكْمَهُ مِنْهُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَخِيَارُ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ)؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي جَانِبِ الْآخَرِ لَازِمٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَمْنَعُ خُرُوجَ الْبَدَلِ.
عَنْ مِلْكِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ نَظَرًا لَهُ دُونَ الْآخَرِ.
قَالَ: إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ فَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي يَكُونُ زَائِلًا لَا إلَى مَالِكٍ وَلَا عَهْدَ لَنَا بِهِ فِي الشَّرْعِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْرُجْ الثَّمَنُ عَنْ مِلْكِهِ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَدْخُلُ الْمَبِيعُ فِي مِلْكِهِ لَاجْتَمَعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ حُكْمًا لِلْمُعَاوَضَةِ، وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ؛ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ شُرِعَ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي لِيَتَرَوَّى فَيَقِفَ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ رُبَّمَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ بِأَنْ كَانَ قَرِيبَهُ فَيَفُوتُ النَّظَرُ.
قَالَ: (فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ هَلَكَ بِالثَّمَنِ، وَكَذَا إذَا دَخَلَهُ عَيْبٌ) بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُ إذَا دَخَلَهُ عَيْبٌ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ، وَالْهَلَاكُ لَا يَعْرَى عَنْ مُقَدِّمَةِ عَيْبٍ فَيَهْلِكُ، وَالْعَقْدُ قَدْ انْبَرَمَ فَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ بِدُخُولِ الْعَيْبِ لَا يَمْتَنِعُ الرَّدُّ حُكْمًا بِخِيَارِ الْبَائِعِ فَيَهْلِكُ وَالْعَقْدُ مَوْقُوفٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَخِيَارُ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ) وَقولهُ (لِأَنَّ الْبَيْعَ) إلَى آخِرِهِ تَعْلِيلٌ لِمَحْذُوفٍ وَهُوَ قولنَا فَيَخْرُجُ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي جَانِبِهِ لَازِمٌ بَاتٌّ فَقَدْ تَمَّ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ وَانْتَفَى مَا يَمْنَعُهُ مِنْ عَمَلِهِ إذَا كَانَ خِيَارُ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُهُ فَيَخْرُجُ (وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَمْنَعُ خُرُوجَ الْبَدَلِ) الَّذِي هُوَ مِنْ جِهَةِ (مَنْ لَهُ الْخِيَارُ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُوجِبُ عَدَمَ الرِّضَا بِخُرُوجِ مِلْكِهِ عَنْهُ فَلَا يُؤَثِّرُ السَّبَبُ خُرُوجَهُ لِعَدَمِ شَرْطِ عَمَلِهِ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ كَمَا كَانَ.
وَقولهُ (إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُهُ) بِمَعْنَى لَكِنَّ، وَهُوَ اسْتِدْرَاكٌ لِأَمْرٍ مُتَبَادِرٍ عِنْدَ قولهِ بِخُرُوجِ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ الْمُقَدَّرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهُ يَتَبَادَرُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَمْلِكُهُ) الْمُشْتَرِي، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قول (لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي يَكُونُ زَائِلًا لَا إلَى) مِلْكِ (مَالِكٍ وَلَا عَهْدَ لَنَا بِهِ فِي الشَّرْعِ) فِي بَابِ التِّجَارَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ فَيَكُونُ كَالسَّائِبَةِ فَلَا يَرِدُ شِرَاءُ مُتَوَلِّي أَمْرِ الْكَعْبَةِ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا لِسَدَانَةِ الْكَعْبَةِ، وَالضَّيْعَةُ الْمَوْقُوفَةُ بِعَبِيدِهَا إذَا ضَعُفَ أَحَدُهُمْ فَاشْتَرَى بِبَدَلِهِ آخَرَ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ بَلْ مِنْ بَابِ الْأَوْقَافِ وَحُكْمُ الْأَوْقَافِ ذَلِكَ، وَكَذَا لَا تَرِدُ التَّرِكَةُ الْمُسْتَغْرَقَةُ بِالدَّيْنِ فَإِنَّهَا تَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْمَيِّتِ وَلَا تَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ وَلَا الْغُرَمَاءِ لِلْقَيْدِ الْمَذْكُورِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْرُجْ الثَّمَنُ عَنْ مِلْكِهِ فَلَوْ قُلْنَا إنَّهُ يَدْخُلُ الْمَبِيعُ فِي مِلْكِهِ اجْتَمَعَ الْبَدَلَانِ) وَالثَّمَنُ وَالْمَبِيعُ (فِي مِلْكِ) أَحَدِ الْمُتَعَاوِضَيْنِ (حُكْمًا لِلْمُعَاوَضَةِ وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ) وَأَنَّى يَكُونُ (وَالْمُعَاوَضَةُ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ) بَيْنَ الْمُتَعَاوِضَيْنِ فِي تَبَادُلِ مِلْكَيْهِمَا، بِخِلَافِ ضَمَانِ غَاصِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا أَبَقَ مِنْ عِنْدِهِ سَوَاءٌ قُلْنَا إنَّهُ بَدَلُ الْيَدِ أَوْ الْمِلْكِ حَيْثُ لَا يَخْرُجُ الْمُدَبَّرُ بِهِ عَنْ مِلْكِ مَالِكِهِ فَيَجْتَمِعُ الْعِوَضَانِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ ضَمَانُ جِنَايَةٍ لَا ضَمَانُ مُعَاوَضَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَهَذَا أَلْزَمُ فِي الشَّرْعِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلسَّدَانَةِ وَالْوَقْفِ كَائِنٌ فِي الْمُعَاوَضَةِ وَهُوَ يَخْرُجُ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ أَحَدٍ (وَلِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي شُرِعَ نَظَرًا لَهُ لِيَتَرَوَّى فَيَقِفُ عَلَى الْمُصْلِحَةِ) فِي رَأْيِهِ (وَلَوْ أَثْبَتْنَا الْمِلْكَ لَهُ) بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ مَعَ خِيَارِهِ أَلْحَقْنَاهُ نَقِيضَ مَقْصُودِهِ (إذْ رُبَّمَا) كَانَ الْمَبِيعُ مَنْ (يَعْتِقُ عَلَيْهِ) فَيَعْتِقُ (مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ) فَيَعُودُ شَرْعُ الْخِيَارِ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ إذَا كَانَ مُفَوِّتًا لِلنَّظَرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ أُورِدَ عَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الشُّفْعَةَ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا بِالْمِلْكِ وَلِذَا لَا تَثْبُتُ بِحَقِّ السُّكْنَى لَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّهَا إذَا بِيعَتْ بِجِوَارِهَا بِالِاتِّفَاقِ وَالْإِجْمَاعِ أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَحَقَّهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِهَا تَصَرُّفًا لَا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ يَسْتَحِقُّهَا إذَا بِيعَتْ دَارٌ بِجِوَارِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى.
وَحَاصِلُ هَذَا مَعَ قَصْرِ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ عَلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ بَلْ هُوَ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَهَذَا تَكَلُّفٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ مُعَلَّلَةً بِانْبِرَامِ الْبَيْعِ فِي ضِمْنِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ فَيَثْبُتُ مُقْتَضًى تَصْحِيحًا، وَمَا فِي الْأَجْنَاسِ لَوْ بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إذَا رَآهَا وَيَبْطُلُ خِيَارُ الشَّرْطِ (فَإِنْ هَلَكَ) الْمَبِيعُ (فِي يَدِ الْمُشْتَرِي) وَلَوْ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ (هَلَكَ بِالثَّمَنِ، وَكَذَا إذَا دَخَلَهُ عَيْبٌ) لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَأَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَلَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ وَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ يُرْجَى زَوَالُهُ فِي الْمُدَّةِ بِأَنْ مَرِضَ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ عَلَى خِيَارِهِ، لَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ مَرِيضًا بَلْ حَتَّى يَبْرَأَ فِي الْمُدَّةِ، فَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَبْرَأْ لَزِمَ الْبَيْعُ فِيهِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَبْطُلُ خِيَارُ الْمُشْتَرِي فِي كُلِّ عَيْبٍ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ إلَّا فِي خَصْلَةٍ، وَهِيَ أَنَّ النُّقْصَانَ إذَا حَصَلَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِفِعْلِ الْبَائِعِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ، بَلْ إنْ شَاءَ رَدَّهُ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ وَأَخَذَ الْأَرْشَ مِنْ الْبَائِعِ.
وَقولهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ) مُتَّصِلٌ بِقولهِ هَلَكَ بِالثَّمَنِ: يَعْنِي الْفَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَهَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَهْلِكُ بِالْقِيمَةِ، وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَهْلِكُ بِالثَّمَنِ هُوَ أَنَّ الْهَلَاكَ لَا يَخْلُو عَنْ مُقَدِّمَةِ عَيْبٍ وَدُخُولُ الْعَيْبِ يَمْنَعُ الرَّدَّ حَالَ قِيَامِهِ كَائِنًا مَا كَانَ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْهَلَاكُ لَمْ تُوجَدْ حَالَةٌ مُجَوِّزَةٌ لِلرَّدِّ فَيَهْلِكُ وَقَدْ انْبَرَمَ الْعَقْدُ، وَانْبِرَامُ الْعَقْدِ يُوجِبُ الثَّمَنَ لَا الْقِيمَةَ (بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ) مِنْ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ، فَإِنْ تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ حُكْمًا لِخِيَارِ الْبَائِعِ (فَيَهْلِكُ وَالْعَقْدُ مَوْقُوفٌ) فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ فَلَا يَضْمَنُ الثَّمَنَ بَلْ الْقِيمَةَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا لِمَا لَهُ مِنْ الْخِيَارِ (وَإِنْ وَطِئَهَا لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا)؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ بِحُكْمِ النِّكَاحِ (إلَّا إذَا كَانَتْ بِكْرًا)؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُنْقِصُهَا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقَالَا: يَفْسُدُ النِّكَاحُ)؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا (وَإِنْ وَطِئَهَا لَمْ يَرُدَّهَا)؛ لِأَنَّ وَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا؛ وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَخَوَاتٌ كُلُّهَا تَبْتَنِي عَلَى وُقُوعِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَعَدَمِهِ: مِنْهَا عِتْقُ الْمُشْتَرَى عَلَى الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ قَرِيبًا لَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَمِنْهَا: عِتْقُهُ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي حَلَفَ إنْ مَلَكْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ.
بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: إنْ اشْتَرَيْت فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُنْشِئِ لِلْعِتْقِ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ، وَمِنْهَا أَنَّ حَيْضَ الْمُشْتَرَاةِ فِي الْمُدَّةِ لَا يُجْتَزَأُ بِهِ عَنْ الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يُجْتَزَأُ؛ وَلَوْ رُدَّتْ بِحُكْمِ الْخِيَارِ إلَى الْبَائِعِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ إذَا رُدَّتْ بَعْدَ الْقَبْضِ.
وَمِنْهَا إذَا وَلَدَتْ الْمُشْتَرَاةُ فِي الْمُدَّةِ بِالنِّكَاحِ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا.
وَمِنْهَا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ ثُمَّ أَوْدَعَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فِي الْمُدَّةِ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ لِارْتِفَاعِ الْقَبْضِ بِالرَّدِّ لِعَدَمِ الْمِلْكِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي لِصِحَّةِ الْإِيدَاعِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْمِلْكِ.
وَمِنْهَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ فَأَبْرَأَهُ الْبَائِعُ مِنْ الثَّمَنِ فِي الْمُدَّةِ بَقِيَ عَلَى خِيَارِهِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ امْتِنَاعٌ عَنْ التَّمَلُّكِ وَالْمَأْذُونُ لَهُ يَلِيهِ، وَعِنْدَهُمَا بَطَلَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَهُ كَانَ الرَّدُّ مِنْهُ تَمْلِيكًا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثُمَّ أَسْلَمَ بَطَلَ الْخِيَارُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا فَلَا يَمْلِكُ رَدَّهَا وَهُوَ مُسْلِمٌ.
وَعِنْدَهُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا فَلَا يَتَمَلَّكُهَا بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ بَعْدَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَفْسُدْ النِّكَاحُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا لِمَا لَهُ مِنْ الْخِيَارِ) وَالْمَبِيعُ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، فَلَوْ رَدَّ الْبَيْعَ اسْتَمَرَّتْ زَوْجَةً عِنْدَهُ.
وَعِنْدَهُمَا إذَا فَسَخَهُ رَجَعَتْ إلَى مَوْلَاهَا بِلَا نِكَاحٍ عَلَيْهَا (وَإِنْ وَطِئَهَا) بَعْدَ الشِّرَاءِ (لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا) بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَلْزَمُ هُنَا أَنْ يَكُونَ إجَازَةً؛ لِأَنَّ لَهُ فِي النِّكَاحِ مِلْكًا قَائِمًا يُحِلُّ لَهُ الْوَطْءَ فَلَمْ يَلْزَمْ كَوْنُ وَطْئِهِ إجَازَةً (إلَّا إذَا كَانَتْ بِكْرًا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُنْقِصُ الْبِكْرَ) فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ لِلْعَيْبِ الَّذِي حَدَثَ عِنْدَهُ، وَمِنْ هَذَا يُعْرَفُ أَنَّهُ لَوْ نَقَصَهَا الْوَطْءُ وَهِيَ ثَيِّبٌ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ عِنْدَهُ أَيْضًا لِلنَّقْصِ الَّذِي دَخَلَهَا لَا لِذَاتِ الْوَطْءِ، فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا زَوَّجَهَا مَوْلَاهَا الَّذِي بَاعَهَا فَقَدْ رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ بِزَوَالِ الْبَكَارَةِ وَحِينَ أَثْبَتَ لَهُ الْخِيَارَ فَقَدْ رَضِيَ بِالرَّدِّ فَيَكُونُ رَاضِيًا بِرَدِّهَا نَاقِصَةً.
أُجِيبَ بِمَنْعِ بَقَاءِ الرِّضَا بِذَلِكَ بَعْدَ الْبَيْعِ بَلْ لَمَّا بَاعَهَا نُسِخَ ذَلِكَ الرِّضَا إلَى الرِّضَا بِمَا هِيَ أَحْكَامُ هَذَا الْبَيْعِ وَأَحْكَامُ هَذَا الْبَيْعِ مَا ذَكَرْنَاهُ (وَقَالَا: يَفْسُدُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا، فَإِنْ وَطِئَهَا لَا يَرُدُّهَا) وَلَوْ كَانَتْ ثَيِّبًا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ بَعْدَ انْفِسَاخِ النِّكَاحِ لَيْسَ إلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَكَانَ مُسْقِطًا لِلْخِيَارِ وَرِضًا بِالْبَيْعِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ فُرُوعِ الْخِلَافِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ لِلْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَعَدَمِهِ (وَلَهَا أَخَوَاتٌ) ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ تَفْرِيعًا عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ (مِنْهَا عِتْقُ) الْعَبْدِ (الْمُشْتَرَى عَلَى الْمُشْتَرِي) بِشَرْطِ الْخِيَارِ (وَفِي مُدَّةِ الْخِيَارِ إذَا كَانَ قَرِيبَهُ) قَرَابَةً مُحَرِّمَةً عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا يَعْتِقُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ، وَلَمْ يُفْسَخْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ (وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ قَالَ: إنْ مَلَكْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ) فَاشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ لَا يَعْتِقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ بِسَبَبِ الْخِيَارِ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ، وَعِنْدَهُمَا وُجِدَ فَعَتَقَ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ.
أَمَّا لَوْ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ بِالِاتِّفَاقِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهَذَا شِرَاءٌ فَيَكُونُ كَالْمُنْشِئِ لِلْعِتْقِ بَعْدَهُ مِنْ حَيْثُ ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلِذَا لَا يُعْتَقُ عَنْ الْكَفَّارَةِ إذَا نَوَى الْحَالِفُ بِشِرَائِهِ أَنْ يُعْتِقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ.
وَمِنْهَا لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَحَاضَتْ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَوْ وَجَدَ بَعْضَ الْحَيْضَةِ فِيهَا ثُمَّ اخْتَارَ الْبَيْعَ عِنْدَهُ لَا يَجْتَزِئُ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ الْمِلْكِ وَالْمَوْجُودُ بَعْدَ الْمِلْكِ بَعْضُ الْحَيْضَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَيْضَةٍ أُخْرَى لِحِلِّ الْوَطْءِ.
وَعِنْدَهُمَا يَجْتَزِئُ بِهَا لِوُجُودِهَا بَعْدَ الْمِلْكِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِكَوْنِ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لِوُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ الْمِلْكُ، وَالْمِلْكُ الْمُؤَكَّدُ يَكُونُ بِالْقَبْضِ، وَلَوْ اخْتَارَ الْفَسْخَ فَرَدَّهَا إلَى الْبَائِعِ لَا يَحْتَاجُ الْبَائِعُ إلَى اسْتِبْرَائِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَ الْفَسْخُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ.
وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْقِيَاسِ يَجِبُ وَإِنْ كَانَ الْفَسْخُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ اسْتِبْرَاؤُهَا قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِاسْتِحْدَاثِ الْمِلْكِ بَعْدَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي الْمِلْكَ الْمُؤَكَّدَ بِالْقَبْضِ فَيَثْبُتُ تَوَهُّمُ الشُّغْلِ، وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْعَقْدَ لَوْ كَانَ بَاتًّا ثُمَّ فُسِخَ بِإِقَالَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْبَائِعِ الِاسْتِبْرَاءُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَالِاسْتِبْرَاءُ وَاجِبٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَفَسَخَ فِي الْمُدَّةِ فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاءٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ، وَإِنْ أَجَازَهُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي اسْتِبْرَاؤُهَا بِحَيْضَةٍ بَعْدَ الْإِجَازَةِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَمِنْهَا إذَا وَلَدَتْ مَنْكُوحَتُهُ بَعْدَمَا اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي الْمُدَّةِ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَهُمَا، وَقَدْ قَيَّدَ الشَّارِحُونَ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ بِأَنْ تَكُونَ الْوِلَادَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ لِمَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ وَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي يَنْقَطِعُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّبَتْ بِالْوِلَادَةِ وَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِالْإِجْمَاعِ.
وَصَوَّرَ الطَّحَاوِيُّ هَذِهِ الْخِلَافِيَّةَ فِيمَا إذَا وَلَدَتْ قَبْلَ الشِّرَاءِ قَالَ: اشْتَرَى جَارِيَةً وَقَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَخِيَارُهُ عَلَى حَالِهِ إلَّا إذَا اخْتَارَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَعِنْدَهُمَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِالشِّرَاءِ، وَيَبْطُلُ خِيَارُهُ وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ وَكَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ، وَتَقْيِيدُهُ بِكَوْنِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَحْسَنَ وَهُوَ يَصْدُقُ بِصُورَتَيْنِ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَالشِّرَاءِ وَمَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَعْدَ الشِّرَاءِ (وَمِنْهَا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي) بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ (الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ ثُمَّ أَوْدَعَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فِي الْمُدَّةِ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ) عِنْدَهُ (لِارْتِفَاعِ الْقَبْضِ بِالرَّدِّ)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْهُ ارْتَفَعَ الْقَبْضُ بِالْإِيدَاعِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُودَعًا لَمِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ الْإِيدَاعُ صَحِيحًا، وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ (وَعِنْدَهُمَا) يَهْلَكُ (مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي لِصِحَّةِ الْإِيدَاعِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ مِلْكِهِ) وَقَدْ يُقَالُ عَدَمُ صِحَّةِ الْإِيدَاعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَالِكَ لَا يَصْلُحُ مُودَعًا لَمِلْكِ نَفْسِهِ صَحِيحٌ، لَكِنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ الْمَبِيعَ يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِاتِّفَاقٍ فَلَا يَكُونُ مُودَعًا لِمِلْكِ نَفْسِهِ فَتَصِحُّ وَدِيعَةُ الْمُشْتَرِي لِتَحَقُّقِ إيدَاعِ غَيْرِ الْمَالِكِ كَالْمُضَارِبِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ يُرَادُ مِلْكُهُ بِحَسَبِ الْمَآلِ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَئُولَ إلَى مِلْكِهِ بِأَنْ يَخْتَارَ مُشْتَرِي الْبَيْعَ.
أَمَّا لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِيَ أَوْدَعَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ الْبَائِعَ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ نَفَاذِ الْبَيْعِ أَوْ بَعْدَهُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي قولهِمْ جَمِيعًا.
وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ بَاتًّا فَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَهُ فِيهِ خِيَارُ رُؤْيَةٍ أَوْ عَيْبٌ فَأَوْدَعَهُ الْبَائِعُ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ هَلَكَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْخِيَارَيْنِ لَا يَمْنَعَانِ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فَصَحَّ الْإِيدَاعُ مِنْهُ (وَمِنْهَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي) بِالْخِيَارِ (عَبْدًا مَأْذُونًا فَأَبْرَأهُ الْبَائِعُ مِنْ الثَّمَنِ فِي الْمُدَّةِ) يَصِحُّ إبْرَاؤُهُ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَمْلِكُ الثَّمَنَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فَلَا يَصِحُّ إبْرَاؤُهُ مِمَّا لَا يَمْلِكُهُ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَصِحُّ لِوُجُوبِ سَبَبِ مِلْكِهِ لِلثَّمَنِ وَهُوَ الْبَيْعُ.
وَإِذَا صَحَّ إبْرَاؤُهُ إلَّا لِاتِّفَاقٍ (بَقِيَ عَلَى خِيَارِهِ) فِي السِّلْعَةِ إنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ فَيَأْخُذُهَا بِلَا ثَمَنٍ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ فَيَرُدُّ السِّلْعَةَ لِلْبَائِعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الْمَبِيعَ فَكَانَ رَدُّهُ امْتِنَاعًا عَنْ تَمَلُّكِ شَيْءٍ بِلَا عِوَضٍ (وَالْمَأْذُونُ يَلِيهِ) أَيْ يَمْلِكُ ذَلِكَ كَمَا لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ قَبُولِ الْهِبَةِ (وَعِنْدَهُمَا) لَمَّا بَرِئَ مِنْ الثَّمَنِ وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْمَبِيعَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لَوْ رَدَّهُ كَانَ مُتَبَرِّعًا مُمَلَّكًا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعَاتِ، فَإِذَا امْتَنَعَ الرَّدُّ انْبَرَمَ الْبَيْعُ بِلَا شَيْءٍ.
وَاسْتَشْكَلَ تَصْوِيرُ الْمَسْأَلَةِ بِسَبَبِ أَنَّ الثَّمَنَ لَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَعْتَمِدُ شَغْلَ الذِّمَّةِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ زَوَالُ مِلْكِ الْمَشْغُولِ ذِمَّتُهُ عَنْ مِقْدَارِهِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْمَدْيُونَ مَشْغُولُ الذِّمَّةِ وَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ وَإِنَّمَا اشْتَغَلَتْ ذِمَّتُهُ لِصِحَّةِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ لَيْسَ دَاخِلًا عَلَى السَّبَبِ بَلْ عَلَى حُكْمِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَبِوُجُودِ الْبَيْعِ لَا بُدَّ أَنْ تُشْغَلَ الذِّمَّةُ بِالثَّمَنِ، وَلَا يُظَنُّ أَنَّهُ يُقَارِنُ وُجُوبَ أَدَائِهِ بَلْ الثَّابِتُ أَصْلُ الْوُجُوبِ وَلَيْسَ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ طَلَبٌ أَصْلًا عَلَى مَا عُرِفَ (وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ ثُمَّ أَسْلَمَ) الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ (بَطَلَ خِيَارُهُ) عِنْدَهُمَا (لِأَنَّهُ مَلَكَهَا فَلَا يَمْلِكُ رَدَّهَا وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَعِنْدَهُ بَطَلَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا وَلَا يُمْكِنُهُ تَمَلُّكُهَا بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ) بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَتَعَيَّنَ بُطْلَانُ الْبَيْعِ أَمَّا لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَأَسْلَمَ فَبُطْلَانُ الْبَيْعِ بِالْإِجْمَاعِ، هَذَا آخِرُ مَا فَرَّعَهُ الْمُصَنِّفُ، وَمِنْ الْفُرُوعِ أَيْضًا عَلَى الْخِلَافِ فِي دُخُولِ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ مَا لَوْ اشْتَرَى مُسْلِمٌ مِنْ مُسْلِمٍ عَصِيرًا بِالْخِيَارِ فَتَخَمَّرَ فِي الْمُدَّةِ فَسَدَ الْبَيْعُ عِنْدَهُ لِعَجْزِهِ عَنْ تَمَلُّكِهِ بِإِسْقَاطِ خِيَارِهِ وَتَمَّ عِنْدَهُمَا لِعَجْزِهِ عَنْ رَدِّهِ بِفَسْخِهِ.
وَمِنْهَا مَا إذَا اشْتَرَى دَارًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ وَهُوَ سَاكِنُهَا بِإِجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ فَاسْتَدَامَ سَاكِنُهَا قَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ: لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا وَإِنَّمَا الِاخْتِيَارُ ابْتِدَاءُ السُّكْنَى.
وَقَالَ خُوَاهَرْ زَادَهْ: اسْتِدَامَةُ السُّكْنَى اخْتِيَارٌ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْعَيْنَ وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِاخْتِيَارٍ؛ لِأَنَّهُ بِإِجَارَةٍ أَوْ الْإِعَارَةِ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا وَمِنْهَا حَلَالٌ اشْتَرَى ظَبْيًا بِالْخِيَارِ فَقَبَضَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ وَالظَّبْيُ فِي يَدِهِ يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ عِنْدَهُ وَيُرَدُّ إلَى الْبَائِعِ.
وَقَالَا: يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ يُنْتَقَضُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي فَأَحْرَمَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْخِيَارَ إذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي وَفُسِخَ الْعَقْدُ فَالزَّوَائِدُ تُرَدُّ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَحْدُثْ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي.
وَعِنْدَهُمَا لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهَا حَدَثَتْ عَلَى مِلْكِهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ شُرِطَ لَهُ الْخِيَارُ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ فِي الْمُدَّةِ وَلَهُ أَنْ يُجِيزَ، فَإِنْ أَجَازَهُ بِغَيْرِ حَضْرَةِ صَاحِبِهَا جَازَ وَإِنْ فَسَخَ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ حَاضِرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ) وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ وَالشَّرْطُ هُوَ الْعِلْمُ، وَإِنَّمَا كَنَّى بِالْحَضْرَةِ عَنْهُ.
لَهُ أَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ فَلَا يُتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ كَالْإِجَازَةِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ وَصَارَ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَهُوَ الْعَقْدُ بِالرَّفْعِ، وَلَا يَعْرَى عَنْ الْمَضَرَّةِ؛ لِأَنَّهُ.
عَسَاهُ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الْبَيْعِ السَّابِقِ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ فَتَلْزَمُهُ غَرَامَةُ الْقِيمَةِ بِالْهَلَاكِ فِيمَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، أَوْ لَا يَطْلُبُ لِسِلْعَتِهِ مُشْتَرِيًا فِيمَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، وَهَذَا نَوْعُ ضَرَرٍ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ وَصَارَ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ، بِخِلَافِ.
الْإِجَازَةِ لِأَنَّهُ لَا إلْزَامَ فِيهِ، وَلَا نَقول إنَّهُ مُسَلَّطٌ، وَكَيْفَ يُقَالُ ذَلِكَ وَصَاحِبُهُ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ وَلَا تَسْلِيطَ فِي غَيْرِ.
مَا يَمْلِكُهُ الْمُسَلَّطُ، وَلَوْ كَانَ فَسَخَ فِي حَالِ غَيْبَةِ صَاحِبِهِ وَبَلَغَهُ فِي الْمُدَّةِ تَمَّ الْفَسْخُ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ، وَلَوْ بَلَغَهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ تَمَّ الْعَقْدُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ قَبْلَ الْفَسْخِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ شُرِطَ لَهُ الْخِيَارُ) سَوَاءٌ كَانَ بَائِعًا أَوْ مُشْتَرِيًا أَوْ أَجْنَبِيًّا (لَهُ أَنْ يُجِيزَ) فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ (وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ، فَإِنْ أَجَازَ بِغَيْرِ حَضْرَةِ صَاحِبِهِ) يُرِيدُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ (جَازَ) فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَنَفَاذُ الْبَيْعِ بِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ: بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ وَبِمَوْتِهِ وَبِإِغْمَائِهِ وَجُنُونِهِ فِي الْمُدَّةِ، فَإِنْ أَفَاقَ فِيهَا قَالَ الْإِسْبِيجَابِيُّ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى خِيَارٍ، وَلَوْ سَكِرَ مِنْ الْخَمْرِ لَمْ يُبْطِلْ سُكْرُهُ مِنْ الْبَنْجِ، وَلَوْ ارْتَدَّ فَعَلَى خِيَارِهِ إجْمَاعًا، فَلَوْ تَصَرَّفَ بِحُكْمِ الْخِيَارِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا.
وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ أَنْ يُجِيزَ الْبَائِعُ كَأَنْ يَقول: أَجَزْت الْبَيْعَ وَرَضِيته وَأَسْقَطْت خِيَارِي وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَنَفَاذُهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ لِلْبَائِعِ، وَبِالْفِعْلِ بِأَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ بِأَنْ يُعْتِقَ أَوْ يُكَاتِبَ أَوْ يُدَبِّرَ أَوْ يَبِيعَ الْمَبِيعَ أَوْ يَهَبَهُ وَيُسَلِّمَهُ أَوْ يَرْهَنَهُ أَوْ يُؤَجِّرَهُ وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْهُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَكَذَا إذَا عَلَّقَ عِتْقَهُ فِي الْمُدَّةِ فَوُجِدَ الشَّرْطُ فِيهَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُبَاشِرَ فِي الْمَبِيعِ فِعْلًا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلِامْتِحَانِ، وَلَا يَحِلُّ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ بِحَالٍ، فَإِنْ كَانَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِلِامْتِحَانِ وَيَحِلُّ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ، فَالْوَطْءُ إجَازَةٌ، وَكَذَا التَّقْبِيلُ بِشَهْوَةٍ وَالْمُبَاشَرَةُ بِشَهْوَةٍ، وَالنَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ بِشَهْوَةٍ لَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحِلُّ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ الطَّبِيبَ وَالْقَابِلَةَ يَحِلُّ لَهُمَا النَّظَرُ وَالْمُبَاشَرَةُ.
نَعَمْ التَّقْبِيلُ لَا إلَّا أَنَّ النَّظَرَ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَسٌّ، وَلَوْ أَنْكَرَ الشَّهْوَةَ فِي هَذِهِ كَانَ الْقول قولهُ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ سُقُوطَ خِيَارِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَتْ الْجَارِيَةُ ذَلِكَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ فِعْلُهَا أَلْبَتَّةَ إجَازَةً لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ لِيَخْتَارَ هُوَ لَا لِيُخْتَارَ عَلَيْهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْوَطْءِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُلْحَقَةٌ بِالْوَطْءِ فِي إيجَابِ الْحُرْمَةِ كَالْمُضَافِ إلَى الرَّجُلِ.
وَأَمَّا الْمُبَاضَعَةُ مُكْرَهًا كَانَ أَوْ مُطَاوِعًا اخْتِيَارٌ.
أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ فَلِأَنَّ الْوَطْءَ تَنْقِيصٌ، حَتَّى لَوْ وُجِدْت مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي يَمْتَنِعُ الرَّدُّ، فَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ إذَا ابْتَدَأَتْهَا وَالْمُشْتَرِي كَارِهٌ ثُمَّ تَرَكَهَا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ فَهُوَ اخْتِيَارٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ سُقُوطُ الْخِيَارِ فِي غَيْرِ الْمُبَاضَعَةِ إذَا أَقَرَّ بِشَهْوَتِهَا؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا يَلْزَمُ إسْقَاطُ خِيَارِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إقْرَارِهِ بِمَا يُسْقِطُ خِيَارَهُ، وَلَوْ دَعَا الْجَارِيَةَ إلَى فِرَاشِهِ لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ، وَالِاسْتِخْدَامُ لَيْسَ بِإِجَازَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِهِ، وَالِاسْتِخْدَامُ ثَانِيًا إجَازَةٌ إلَّا إذَا كَانَ فِي نَوْعٍ آخَرَ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ كَلَامُهُ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى فَقَالَ: الِاسْتِخْدَامُ مِرَارًا لَا يَكُونُ إجَازَةً.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: قَالَ الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ تُبْطِلُ الْخِيَارَ، وَأَكْلُهُ الْمَبِيعَ وَشُرْبُهُ وَلُبْسُهُ يُسْقِطُ الْخِيَارَ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: إذَا لَبِسَهُ مَرَّةً وَاسْتَخْدَمَ الْخَادِمَ مَرَّةً لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ وَيَبْطُلُ بِمَرَّتَيْنِ، وَرُكُوبُهَا لِيَسْقِيَهَا أَوْ يَرُدَّهَا وَيَعْلِفَهَا إجَازَةٌ.
وَقِيلَ إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ بِدُونِ الرُّكُوبِ لَا يَكُونُ إجَازَةً.
وَأَطْلَقَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ خِيَارَهُ فَقَالَ: وَرُكُوبُهَا لِيَسْقِيَهَا أَوْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ لَا يُبْطِلُ خِيَارَهُ اسْتِحْسَانًا فَجَعَلَهُ الِاسْتِحْسَانَ.
وَلَوْ قَطَعَ حَوَافِرَ الدَّابَّةِ أَوْ أَخَذَ بَعْضَ عُرْفِهَا لَا يَبْطُلُ.
وَلَوْ نَسَخَ مِنْ الْكِتَابِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ لَا يَسْقُطُ.
وَلَوْ دَرَسَ فِيهِ يَسْقُطُ، وَقِيلَ عَلَى الْعَكْسِ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو اللَّيْثِ، وَطَلَبُ الشُّفْعَةِ بِالدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ رِضًا بِهَا، بِخِلَافِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ.
وَلَوْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ فِي خِيَارِ الْمُشْتَرِي بَطَلَ خِيَارُهُ سَوَاءٌ حَدَثَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَلْزَمُهُ الْعَقْدُ بِفِعْلِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إلْزَامِ الْبَيْعِ، وَمَتَى قُلْنَا إنَّهُ يَلْزَمُ بِجِنَايَتِهِ أَثْبَتْنَا لَهُ قُدْرَةَ إلْزَامِهِ فَتَفُوتُ فَائِدَةُ شَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فَإِنَّ لُزُومَهُ لَا مِنْ قِبَلِهِ.
وَلَهُمَا أَنَّ مَا يَنْقُصُ بِفِعْلِ الْبَائِعِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي تَلِفَ فِي ضَمَانِهِ وَتَعَذَّرَتْ عَلَى الْبَائِعِ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ، فَمَتَى رَدَّ الْبَاقِيَ كَانَ تَفْرِيقًا لِلصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ التَّمَامِ فِي حَقِّ الرَّدِّ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ كَفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ؛ وَإِذَا.
عُرِفَ هَذَا عُرِفَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالْأَرْشِ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَحَدَثَ بِهِ عَيْبٌ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّ مَا انْتَقَصَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْبَائِعِ، وَكَذَا لَوْ سَقَطَتْ أَطْرَافُهُ لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ لَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ حَدَثَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ انْتَقَصَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ مَا انْتَقَصَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ وَيُسْقِطُ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ، فَلَوْ نَفَيْنَا الْخِيَارَ تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَوْ بَزَغَ الدَّابَّةَ فَهُوَ رِضًا، وَلَوْ حَلَبَ لَبَنَهَا فَهُوَ رِضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَكُونُ رِضًا حَتَّى يَشْرَبَهُ أَوْ يَسْتَهْلِكَهُ، وَلَوْ سَقَى حَرْثًا فِي الْأَرْضِ فِيمَا إذَا اشْتَرَى الْأَرْضَ أَوْ حَصَدَ الزَّرْعَ أَوْ فَصَلَ مِنْهُ شَيْئًا فِيمَا إذَا اشْتَرَى الزَّرْعَ فَهُوَ رِضًا.
وَلَوْ سَقَى دَوَابَّهُ مِنْ النَّهْرِ أَوْ شَرِبَ هُوَ فَلَيْسَ بِرِضًا، وَلَوْ طَحَنَ فِي الرَّحَى فَهُوَ رِضًا، وَقَدْ ذُكِرَ فِيهَا تَفْصِيلٌ وَذَلِكَ فِي رَحَى الْمَاءِ وَلَيْسَتْ فِي دِيَارِنَا.
وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا فِيهَا سَاكِنٌ فَطَلَبَ الْمُشْتَرِي الْأُجْرَةَ مِنْ السَّاكِنِ فَهُوَ إجَازَةٌ.
وَلَوْ غَسَلَ الْعَبْدَ أَوْ الْجَارِيَةَ أَوْ مَشَّطَهَا بِالْمُشْطِ وَالدُّهْنِ وَأَلْبَسَهَا فَلَيْسَ بِرِضًا.
قولهُ: (وَإِنْ فَسَخَ) أَيْ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْمُدَّةِ (بِغَيْرِ حَضْرَةِ الْآخَرِ) أَيْ بِغَيْرِ عِلْمِهِ (لَمْ يَجُزْ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قول مَالِكٍ (وَإِنَّمَا كَنَّى بِالْحَضْرَةِ عَنْ الْعِلْمِ) حَتَّى لَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْفَسْخُ إلَّا بَعْدَ الْمُدَّةِ تَمَّ الْبَيْعُ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْفَسْخِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ) وَكَذَا الْخِلَافُ فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْفَسْخُ بِالْقول فِي الْمُدَّةِ بِأَنْ يَقول فَسَخْت أَوْ رَدَدْت الْبَيْعَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى رَدِّ الْبَيْعِ، وَهَذَا الْفَسْخُ بِالْقول هُوَ الَّذِي الْخِلَافُ فِي جَوَازِهِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْآخَرِ.
وَأَمَّا الْفَسْخُ بِالْفِعْلِ فَيَجُوزُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ اتِّفَاقًا، وَكَانَ مُقْتَضَى النَّظَرِ أَنَّ مَنْ قَالَ بِمَنْعِ الْفَسْخِ بِغَيْرِ عِلْمِ صَاحِبِهِ بِالْقول أَنْ يَقول بِهِ فِيمَا هُوَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ؛ لِأَنَّهُ كَالْقول مِنْ حَيْثُ هُوَ اخْتِيَارٌ يَثْبُتُ بِهِ الِانْفِسَاخُ، بِخِلَافِ الْمَوْتِ وَفِعْلِ الْأَمَةِ وَدُخُولِ الْعَيْبِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ وَالْهَلَاكِ، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَهُوَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ كَالْعِتْقِ وَالْبَيْعِ وَالْوَطْءِ، وَجَمِيعُ مَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ إجَازَةٌ إذَا صَدَرَ مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْأَفْعَالِ فَهُوَ فَسْخٌ إذَا صَدَرَ مِنْ الْبَائِعِ (لَهُ) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ (أَنَّهُ) أَيْ الْفَاسِخُ مِنْهُمَا (مُسَلَّطٌ عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ) يَعْنِي الَّذِي لَا خِيَارَ لَهُ (فَلَا يَتَوَقَّفُ) فَسْخُهُ (عَلَى عِلْمِهِ) كَبَيْعِ الْوَكِيلِ يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ (وَلَهُمَا أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ) وَهُوَ الَّذِي لَا خِيَارَ لَهُ (بِالرَّفْعِ وَلَا يَعْرَى عَنْ الضَّرَرِ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْغَيْرُ الَّذِي لَا خِيَارَ لَهُ عَسَاهُ يَعْتَمِدُ عَلَى تَمَامِ الْبَيْعِ السَّابِقِ إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْفَسْخُ (فَيَتَصَرَّفُ) الْمُشْتَرِي (فِيهِ) فِيمَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ فَسْخٌ (فَتَلْزَمُهُ غَرَامَةُ الْقِيمَةِ بِالْهَلَاكِ) وَقَدْ تَكُونُ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ (وَلَا يَطْلُبُ لِسِلْعَتِهِ مُشْتَرِيًا) اعْتِمَادًا عَلَى نَفَاذِ الْبَيْعِ لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْفَسْخُ فِي الْمُدَّةِ اعْتِمَادًا عَلَى تَمَامِهِ (فِيمَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَهَذَا نَوْعُ ضَرَرٍ) يَجِيءُ مِنْ قِبَلِ الِانْفِرَادِ بِالْفَسْخِ فَيَتَوَقَّفُ عِلْمُهُ وَصَارَ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ قَصْدًا حَالَ عَدَمِ عِلْمِهِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَزْلِ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ كَيْ لَا يَتَضَرَّرَ بِلُزُومِ الثَّمَنِ مِنْ مَالِهِ إذَا كَانَ وَكِيلًا بِالشِّرَاءِ، وَبِبُطْلَانِ قولهِ وَتَصَرُّفِهِ إذَا كَانَ وَكِيلًا بِالْبَيْعِ، وَرُبَّمَا يَعْتَمِدُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ النَّفَاذَ فَيَتَشَعَّبُ الْفَسَادُ.
وَالْحَاصِلُ قِيَاسَانِ تَعَارَضَا قِيَاسُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ وَقِيَاسُهُمَا عَلَى عَزْلِ الْوَكِيلِ، ثُمَّ فِي قِيَاسِهِمَا أُمُورٌ طَرْدِيَّةٌ لَا مَعْنَى لَهَا وَهُوَ قولهُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِالرَّفْعِ، فَإِنَّ هَذَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي نَفْيِ الصِّحَّةِ بِلَا عِلْمٍ، إنَّمَا أَثَرُهُ فِي نَفْيِ الصِّحَّةِ بِلَا إذْنٍ، فَإِنَّ كَوْنَهُ حَقَّ الْغَيْرِ يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ بِلَا إذْنٍ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِلْمِ طَرْدٌ، وَالْإِذْنُ قَدْ وُجِدَ فِي ضِمْنِ شَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ:
لَا نُسَلِّمُ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ تَضَمَّنَ الْإِذْنَ لَهُ بِالْفَسْخِ مُطْلَقًا إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَظِنَّةَ أَنْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ، أَمَّا إذَا كَانَ الْفَسْخُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ طَرِيقَ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فَلَا.
قُلْنَا فَاسْتَقَامَ حِينَئِذٍ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ لَيْسَ إلَّا كَوْنُ فَسْخِهِ مَظِنَّةَ ذَلِكَ الضَّرَرِ، وَصَحَّ قولنَا إنَّ مَا سِوَاهُ لَا أَثَرَ لَهُ مِنْ كَوْنِهِ تَصَرَّفَ فِي حَقِّهِ بِلَا عِلْمِهِ، وَحِينَئِذٍ فَيَقْتَصِرُ النَّظَرُ عَلَى إثْبَاتِ الضَّرَرِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الضَّرَرَ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ يَلْحَقُ الْمُشْتَرِيَ إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فِي حَيِّزِ التَّعَارُضِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ لُزُومُ الْقِيمَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِنَاءً عَلَى زِيَادَةِ الْقِيمَةِ عَلَى الثَّمَنِ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَا أَكْثَرِيٍّ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ فَهُمَا فِي مَحَلِّ التَّعَارُضِ، بَلْ الْغَالِبُ أَنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ بِمَا هُوَ قِيمَةُ الْمَبِيعِ خُصُوصًا بِيَاعَاتُ الْأَسْوَاقِ فَبَطَلَ ذَلِكَ الشِّقُّ وَأَمَّا ضَرَرُ الْبَائِعِ بِاعْتِمَادِهِ فَلَا يَطْلُبُ لِسِلْعَتِهِ مُشْتَرِيًا، فَإِنَّمَا لَحِقَهُ مِنْ تَقْصِيرِهِ حَيْثُ لَمْ يَسْتَكْشِفْ مِنْ الْمُشْتَرِي فِي الْمُدَّةِ هَلْ فَسَخْت أَوْ لَا، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْفِقْهِ أَعْنِي إلْزَامَ مَا هُوَ ضَرَرٌ لِتَقْصِيرِ مَنْ لَزِمَهُ فِي احْتِيَاطِهِ لِنَفْسِهِ مَعَ الْمُكْنَةِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فَإِنَّ ضَرَرَهُ لَازِمٌ بِإِلْزَامِ ثَمَنِ مَا يَشْتَرِيهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ وَكِيلًا لِلشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ إذَا وُجِدَ نَفَاذًا لَا يَتَوَقَّفُ فَيَتَضَرَّرُ بِإِلْزَامِ ثَمَنِ مَا لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ وَلَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مَالِكًا لِمِقْدَارِهِ وَبِإِهْدَارِ أَقْوَالِهِ: أَعْنِي عُقُودَهُ إذَا كَانَ وَكِيلًا بِالْبَيْعِ.
وَهَذَا أَضَرُّ عَلَى النَّفْسِ مِنْ اقْتِرَاضِ الْمَالِ لِدَفْعِ الدَّيْنِ لِمَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ تَحْقِيرِ شَأْنِهِ وَوَضْعِ قَدْرِهِ، فَالْوَجْهُ لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ أَقْوَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقولهُ حِينَئِذٍ (وَلَا نَقول إنَّهُ مُسَلَّطٌ) مِنْ جِهَتِهِ (وَكَيْفَ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ فَلَا يَمْلِكُ تَسْلِيطَهُ) مُشَاحَّةٌ لَفْظِيَّةٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مَنْ سَلَّطَهُ أَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي حَقِّهِ ذَلِكَ بِالرَّفْعِ فِي الْمُدَّةِ، فَإِذَا مَنَعَ تَضَمُّنَ شَرْطِ الْخِيَارِ الْإِذْنُ بِلَا عِلْمِهِ لِلضَّرَرِ، فَكَانَ الْإِذْنُ مُقَيَّدًا بِعَدَمِ مَحَلِّ الضَّرَرِ وَهُوَ حَالُ الْعِلْمِ.
فَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ انْتِفَائِهِ فِي صُورَةِ التَّعَارُضِ وَعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي أُخْرَى لِتَقْصِيرِهِ مَنْ يَلْزَمُهُ، وَبِهَذَا أَجَابُوا عَنْ الْمُعَارَضَةِ الْقَائِلَةِ لَوْ لَمْ يَنْفَرِدْ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ بِالْفَتْحِ يَتَضَرَّرُ هُوَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَخْتَفِيَ صَاحِبُهُ فِي الْمُدَّةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ، فَقَالُوا: هَذَا الضَّرَرُ إنَّمَا لَزِمَهُ مِنْ جَانِبِهِ بِتَقْصِيرِهِ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ الضَّرَرَ بِالِاخْتِفَاءِ عَلَى صَاحِبِ الْخِيَارِ لِعَجْزِهِ عَنْ إحْضَارِهِ لَا بِالِاخْتِفَاءِ فَفِي سِعَةِ فَضْلِ اللَّهِ التَّجَاوُزُ عَنْهُ.
وَقِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَخْتَفِي؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ حَيْثُ أَثْبَتَ الْخِيَارَ لِصَاحِبِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِلْزَامَ بِهَذَا الْفَرْعِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: جَاءَ إلَى بَابِ الْبَائِعِ لِيَرُدَّهُ فَاخْتَفَى فِيهِ فَطَلَبَ مِنْ الْقَاضِي خَصْمًا لِيَرُدَّهُ عَلَيْهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يُنَصَّبُ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: لَا يُجِيبُهُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ تَرَكَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ حَيْثُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ وَكِيلًا مَعَ احْتِمَالِ غِيبَتِهِ فَلَا يُنْظَرُ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يُنَصِّبْ الْقَاضِي وَطَلَبَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْقَاضِي الْإِعْذَارَ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ:
وَفِي رِوَايَةٍ يُجِيبُهُ فَيَبْعَثُ مُنَادِيًا يُنَادِي عَلَى بَابِ الْبَائِعِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَقول: إنَّ خَصْمَك فُلَانًا يُرِيدُ أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ عَلَيْك، فَإِنْ حَضَرْت وَإِلَّا نَقَضْت الْبَيْعَ وَلَا يَنْقُضُ الْقَاضِي بِلَا إعْذَارٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يُجِيبُهُ إلَى الْإِعْذَارِ أَيْضًا، وَقِيلَ لِمُحَمَّدٍ يَعْنِي عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ كَيْفَ يَصْنَعُ الْمُشْتَرِي؟ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَوْثِقَ فَيَأْخُذَ مِنْهُ وَكِيلًا ثِقَةً إذَا خَافَ الْغَيْبَةَ حَتَّى إذَا غَابَ يَرُدُّهُ عَلَى الْوَكِيلِ: وَطَرِيقُ نَقْضِ الْقَاضِي عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ إذَا قَالَ الْخَصْمُ: إنِّي أَعْذَرْت إلَيْهِ وَأَشْهَدْت فَتَوَارَى فَيَقول الْقَاضِي اشْهَدُوا أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ أَعْذَرَ إلَى صَاحِبِهِ فِي الْمُدَّةِ كُلَّ يَوْمٍ وَاخْتَفَى، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ فَقَدْ أَبْطَلْت عَلَيْهِ الْخِيَارَ، فَإِنْ ظَهَرَ وَأَنْكَرَ فَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ بِالْخِيَارِ وَالْإِعْذَارِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ ظُهُورِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَى غَائِبٍ وَلَا تُسْمَعُ حَالَ غَيْبَتِهِ لِلْحُكْمِ بِهَا عَلَيْهِ.
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالْمَسَائِلُ الْمُورَدَةُ نَقْضًا مُسَلَّمَةٌ؛ لِأَنَّهَا عَلَى وَفْقِ مَا تَرَجَّحَ مِنْ قول أَبِي يُوسُفَ، لَكِنَّا نُورِدُهَا بِنَاءً عَلَى تَسْلِيمِ تَمَامِ الدَّلِيلِ: فَمِنْهَا أَنَّ الْمُخَيَّرَةَ يَتِمُّ اخْتِيَارُهَا لِنَفْسِهَا بِلَا عِلْمِ زَوْجِهَا وَيَلْزَمُهُ حُكْمُ ذَلِكَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ لُزُومَ حُكْمِ الطَّلَاقِ عَلَى الزَّوْجِ بِإِيجَابِهِ نَفْسِهِ وَهُوَ تَخْيِيرُهُ وَهُوَ بَعْدَ الرِّضَا وَالْعِلْمِ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ إثْبَاتَ خِيَارِ الْفَسْخِ بِمَنْزِلَةِ إثْبَاتِ خِيَارِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بِإِيجَابِهِ فَيَجُوزُ حَالَ غَيْبَتِهِ فَكَذَا الْفَسْخُ بِإِيجَابِهِ فَيَجُوزُ حَالَ غَيْبَتِهِ.
وَمِنْهَا الرَّجْعَةُ يَنْفَرِدُ بِهَا الزَّوْجُ وَيَلْزَمُ حُكْمُهَا الْمَرْأَةَ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ ثَلَاثِ حِيَضٍ فُسِخَ إذَا أَثْبَتَ الرَّجْعَةَ قَبْلَهَا أُجِيبَ بِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يُلْزِمُهَا حُكْمًا جَدِيدًا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ وَإِنَّمَا يُثْبِتُ الْبَيْنُونَةَ عِنْدَ فَرَاغِ الْعِدَّةِ بِشَرْطِ عَدَمِ الرَّجْعَةِ فَكَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتَكْشِفَ شَرْطَ تَصَرُّفِهَا هَلْ هُوَ مَوْجُودٌ أَوْ لَا.
وَمِنْهَا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ، فَإِنَّ حُكْمَهَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ بِلَا عِلْمِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا إسْقَاطَاتٌ لَا يَلْزَمُ بِهَا شَيْءٌ مَنْ أُسْقِطَ عَنْهُ فَلَا يَتَوَقَّف عَلَى عِلْمِهِ.
وَمِنْهَا خِيَارُ الْمُعْتَقَةِ يَصِحُّ اخْتِيَارُهَا الْفُرْقَةَ بِلَا عِلْمِ زَوْجِهَا.
أُجِيبَ لَا رِوَايَةَ فِيهَا.
وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَالتَّخْيِيرُ أَثْبَتَهُ لَهَا الشَّرْعُ مُطْلَقًا وَلَا الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مِنْ فَسَادِ الْوَضْعِ، فَإِنَّ كَوْنَ الشَّرْعِ أَثْبَتَ حُكْمَ التَّصَرُّفِ عَلَى الْآخَرِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فِي خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الشَّرْعَ لَا يُوقِفُ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ عَلَى عِلْمِ الْآخَرِ فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ فِي حَقِّهِ.
فَإِنْ قُلْت: فَمَا الضَّرَرُ الَّذِي يَلْزَمُهُ أَوَّلًا حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى جَوَابِهِ؟ قُلْنَا: امْتِنَاعُهُ عَنْ تَزَوُّجِ أَمَةٍ بِنَاءً عَلَى قِيَامِ نِكَاحِ الَّتِي أُعْتِقَتْ.
وَمِنْهَا خِيَارُ الْمَالِكِ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ بِدُونِ عِلْمِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ عَقْدَهُمَا لَا وُجُودَ لَهُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَيْهِ، فَإِذَا رُدَّ فَقَدْ بَقِيَ عَدَمُ شَرْطِ الثُّبُوتِ فَانْعَدَمَ أَصْلًا فِي حَقِّهِ فَإِنَّهُ يَقَعُ الِانْعِقَادُ حُكْمًا.
وَمِنْهَا الْعِدَّةُ فَإِنَّهَا تَلْزَمُ عَلَى الْمَرْأَةِ بِتَطْلِيقِ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عِلْمِهَا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَجِبُ بِالطَّلَاقِ حَتَّى يَتَوَقَّفَ نَفَاذُ الطَّلَاقِ عَلَى عِلْمِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْعِدَّةُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ بَلْ الطَّلَاقُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِإِزَالَةِ مِلْكٍ أَقْدَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَإِنَّمَا تَلْزَمُ فِي ضِمْنِ الطَّلَاقِ وَالْعِبْرَةُ لِلْمُتَضَمِّنِ لَا لِلْمُتَضَمَّنِ، وَأَمَّا هُنَا فَلَيْسَ جَوَازُ الْفَسْخِ لَهُ بِتَسَلُّطِ صَاحِبِهِ لِمَا ذَكَرْنَا وَقَدْ عُرِفَ مَا فِيهِ.
فُرُوعٌ:
اشْتَرَيَا غُلَامًا عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا لَا رَدَّ لِلْآخَرِ عِنْدَهُ.
وَقَالَا عِنْدَهُ.
وَقَالَا لَهُ رَدُّ نَصِيبِهِ.
وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْعَاقِدَيْنِ فَقَالَ الْبَائِعُ: بِحُضُورِ الْمُشْتَرِي أَجَزْته ثُمَّ قَالَ الْمُشْتَرِي: فَسَخْته بِحُضُورِهِ انْفَسَخَ، فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي سَقَطَ الثَّمَنُ، وَلَوْ بَدَأَ الْمُشْتَرِي بِالْفَسْخِ ثُمَّ الْبَائِعُ بِالْإِجَازَةِ ثُمَّ هَلَكَ فَعَلَى الْمُشْتَرِي قِيمَتُهُ، وَلَوْ تَفَاسَخَا الْعَقْدَ ثُمَّ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الرَّدِّ يَبْطُلُ حُكْمُ الْفَسْخِ ذَكَرَهُ فِي الْمُجْتَبِي.
وَفِي الْفَتَاوَى: بَاعَ أَرْضًا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ نَقَضَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ تَبْقَى الْأَرْضُ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُشْتَرِي وَلِلْمُشْتَرِي حَبْسُهَا لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ الَّذِي كَانَ دَفَعَهُ إلَى الْبَائِعِ، فَإِنْ أَذِنَ الْبَائِعُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي فِي زِرَاعَتِهَا تَصِيرُ أَمَانَةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَكَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَهَا مَتَى شَاءَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ الثَّمَنَ وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي حَبْسُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا زَرَعَهَا بِإِذْنِ الْبَائِعِ صَارَ كَأَنَّهُ سَلَّمَهَا إلَى الْبَائِعِ، وَلَوْ مَرِضَ الْعَبْدُ وَالْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَلَقِيَ الْبَائِعَ فَقَالَ لَهُ نَقَضْت الْبَيْعَ وَرَدَدْت الْعَبْدَ عَلَيْك فَلَمْ يَقْبَلْ الْبَائِعُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ فَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ وَالْعَبْدُ مَرِيضٌ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ، وَإِنْ صَحَّ فِيهَا فَلَمْ يَرُدَّهُ حَتَّى مَضَتْ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ بِذَلِكَ الرَّدِّ الَّذِي كَانَ مِنْهُ.
وَمَنْ بَاعَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَصَالَحَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ عَرَضٍ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْخِيَارَ وَيُمْضِيَ الْبَيْعَ جَازَ وَطَابَ لَهُ إذْ حَاصِلُهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَصَالَحَهُ الْبَائِعُ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْخِيَارَ وَيَحُطَّ عَنْهُ مِنْ الثَّمَنِ كَذَا أَوْ يُعْطِيَهُ هَذَا الْعَرَضَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الْمَبِيعِ أَوْ حَطٌّ مِنْ الثَّمَنِ؛ وَلَوْ أَمَرَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ عَلَى أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَبَاعَهُ مُطْلَقًا لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ أَمَرَهُ مُطْلَقًا فَبَاعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْآمِرِ أَوْ لِلْأَجْنَبِيِّ صَحَّ، وَلَوْ وَكَّلَهُ بِالشِّرَاءِ تَوْكِيلًا صَحِيحًا فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ إلَّا أَنَّ الْعَقْدَ مَتَى لَمْ يَنْفُذْ عَلَى الْآمِرِ يَنْفُذْ عَلَى الْمَأْمُورِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ إذَا لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا نَفَذَ عَلَى الْعَاقِدِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ بَطَلَ خِيَارُهُ وَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَى وَرَثَتِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُورَثُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَازِمٌ ثَابِتٌ فِي الْبَيْعِ فَيَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَالتَّعْيِينِ.
وَلَنَا أَنَّ الْخِيَارَ لَيْسَ إلَّا مَشِيئَةً وَإِرَادَةً وَلَا يُتَصَوَّرُ انْتِقَالُهُ، وَالْإِرْثُ فِيمَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ.
بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْمُوَرِّثَ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعِ سَلِيمًا فَكَذَا الْوَارِثُ، فَأَمَّا نَفْسُ الْخِيَارِ لَا يُوَرَّثُ، وَأَمَّا خِيَارُ التَّعْيِينِ يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً لِاخْتِلَاطِ مِلْكِهِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ لَا أَنْ يُوَرَّثَ الْخِيَارُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ بَطَلَ خِيَارُهُ) بَائِعًا كَانَ أَوْ مُشْتَرِيًا (وَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَى وَرَثَتِهِ) وَإِذَا بَطَلَ خِيَارُهُ يَلْزَمُ الْبَيْعُ، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ دَخَلَ ثَمَنُ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِ وَرَثَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي دَخَلَ الْمَبِيعُ فِي مِلْكِ وَرَثَتِهِ وَلِلْبَائِعِ الثَّمَنُ فِي التَّرِكَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهُ.
وَقُيِّدَ بِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ الْعَاقِدُ الَّذِي لَا خِيَارَ لَهُ فَالْآخَرُ عَلَى خِيَارِهِ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ أَمْضَى مَضَى وَإِنْ فَسَخَ انْفَسَخَ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُورَثُ عَنْهُ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ عَلَى مَا هُوَ فِي كُتُبِهِمْ الْمَشْهُورَةِ (؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْخِيَارُ (حَقٌّ) لِلْإِنْسَانِ (لَازِمٌ) حَتَّى إنَّ صَاحِبَهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ (فَيَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَالتَّعْيِينِ) فَإِنَّهُمَا يُورَثَانِ بِالِاتِّفَاقِ (وَلَنَا أَنَّ الْخِيَار لَيْسَ إلَّا مَشِيئَةً وَإِرَادَةً فَلَا يُتَصَوَّرُ انْتِقَالُهُ)؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ شَخْصِيٌّ لَا يُمْكِنُ فِيهِ ذَلِكَ (وَالْإِرْثُ فِيمَا) يُمْكِنُ (فِيهِ الِانْتِقَالُ) وَهُوَ الْأَعْيَانُ، وَلَفْظُ مَشِيئَةٍ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ لَيْسَ، وَمَا فِي الشُّرُوحِ مِنْ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ الْخَبَرِ وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ الْخِيَارَ لَيْسَ شَيْئًا إلَّا مَشِيئَةً مَبْنِيٌّ عَلَى قول ضَعِيفٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَنْ يُقَدَّرَ الْمَعْمُولُ غَيْرَ مَا فَرَغَ الْعَامِلُ لَهُ وَيُجْعَلَ مَا بَعْدَ إلَّا بَدَلَهُ.
وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُفَرَّغَ لَهُ هُوَ الْمَعْمُولُ، فَفِي مَا قَامَ إلَّا زَيْدٌ زَيْدٌ فَاعِلٌ، بِخِلَافِ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ مِنْ خِيَارِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ فِيهِ لِلْعَيْنِ وَمِنْ جُمْلَتِهِ الْجُزْءُ الْمُسْتَحَقُّ، فَإِذَا دَخَلَ فِي مِلْكِهِ تَمَامُ الْأَجْزَاءِ وَبَعْضُهَا مُحْتَبَسٌ عِنْدَ إنْسَانٍ كَأَنْ يَخْتَارَ أَنْ يَتْرُكَ حَقَّهُ أَوْ يَطْلُبَهُ وَهَذَا مَعْنَى ثُبُوتِ خِيَارِ الْعَيْبِ غَيْرَ أَنَّ طَلَبَهُ لَا يُمْكِنُ شَرْعًا إلَّا بِرَدِّ الْكُلِّ.
وَأَمَّا خِيَارُ التَّعْيِينِ فَجَعَلَهُ أَصْلًا آخَرَ لِلشَّافِعِيِّ لَا يَصِحُّ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجِيزُ خِيَارَ التَّعْيِينِ فَكَأَنَّهُ ذَكَرَهُ إلْزَامًا لَنَا.
وَجَوَابُهُ كَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْرُوثَ هُوَ أَحَدُ الْعَيْنَيْنِ الْمُخَيَّرِ فِي تَعْيِينِهِ فَيَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ ذَلِكَ وَلَازِمُهُ اخْتِلَاطُ الْمِلْكَيْنِ فَصَارَ كَمَا إذَا وَرِثَ مَالًا مُشْتَرَكًا فَيَثْبُتُ حُكْمُ ذَلِكَ، وَهُوَ وُجُوبُ التَّعْيِينِ وَالْإِفْرَازِ، وَهُوَ مَعْنَى الْخِيَارِ، فَجَاءَ الْخِيَارُ لَازِمًا لِلْعَيْنِ الْمَوْرُوثَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ضِمْنًا لَا قَصْدًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْلَالِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيمَا فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَيْسَ مَلْزُومًا لِلْخِيَارِ لِيَنْتَقِلَ إلَى الْوَارِثِ بِمَا فِيهِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ الْمَبِيعُ فِي مِلْكِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُورَثُ، وَوَجْهُهُ قَوِيٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَيُقَالُ: عَلَى أَصْلِ الدَّلِيلِ قولكُمْ لَا يُتَصَوَّرُ انْتِقَالُ الْوَصْفِ إنْ أَرَدْت حَقِيقَةً فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّ مُرَادَنَا بِالِانْتِقَالِ أَنْ يَثْبُتَ لِلْوَارِثِ شَرْعًا مِلْكٌ خَلْفَ مِلْكِ الْمَيِّتِ أَوْ اسْتِحْقَاقَهُ لَا عَيْنُ ذَلِكَ الْمِلْكِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ الْمُقَيَّدُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَالْوَجْهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ لَيْسَ إلَّا أَنْ يُقَالَ: ثُبُوتُ ذَلِكَ شَرْعًا فِي أَمْلَاكِ الْأَعْيَانِ مَعْلُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا ثُبُوتُهُ عَنْ الشَّرْعِ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْحُقُوقِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ وَلَمْ يُوجَدْ، وَنَفْيُ الْمُدْرَكِ الشَّرْعِيِّ يَكْفِي لِنَفْيِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنْ قَالُوا: بَلْ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَال: «مَنْ تَرَكَ مَالًا أَوْ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ عِيَالًا فَإِلَيَّ» قُلْنَا: الثَّابِتُ قولهُ مَالًا فِي الصَّحِيحِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْأُخْرَى فَلَمْ تَثْبُتْ عِنْدَنَا وَمَا لَمْ يَثْبُتْ لَمْ يَتِمَّ بِهِ الدَّلِيلُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يَنْتَقِلُ فِي ضِمْنِ انْتِقَالِ الْعَيْنِ فَيُعَدُّ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، إذْ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْإِرْثِ انْتِقَالًا لِنَفْسِ ذَاتِ الْعَيْنِ وَالْمِلْكُ يَتْبَعُهَا بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ انْتِقَالِهَا إنَّمَا هُوَ فِي الْمَكَانِ فَآلَ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ انْتِقَالُ مِلْكِهَا لَيْسَ غَيْرُ، ثُمَّ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِقولهِمْ انْتَقَلَ مِلْكُهَا بِمَا يَنْفِي كُلَّ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَالْمُحَاوَرَاتِ الْمَكْتُوبَةِ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ.
هَذَا وَيَلْزَمُهُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ أَنْ يُورَثَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ عِنْدَهُمْ وَالْمَنْقول عَنْهُمْ عَدَمُهُ.
ثُمَّ نَقول: مُقْتَضَى النَّظَرِ أَنْ يَتَفَرَّعَ عَدَمُ انْتِقَالِ الْخِيَارِ إلَى الْوَرَثَةِ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ، أَمَّا عَلَى قولهِمَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُورَثَ فَإِنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي الْعَيْنِ فَيَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ عَيْنٌ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فِيهَا خِيَارٌ أَنْ يَفْسَخَ كَمَا فِي خِيَارِ الْعَيْبِ بِعَيْنِهِ، وَفِي خِيَارِ الْبَائِعِ يَنْتَقِلُ الثَّمَنُ مَمْلُوكًا لَهُمْ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ فَأَيُّهُمَا أَجَازَ الْخِيَارَ وَأَيُّهُمَا نَقَضَ انْتَقَضَ) وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ لِغَيْرِهِ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قول زُفَرَ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ مِنْ مَوَاجِبِ الْعَقْدِ وَأَحْكَامِهِ، فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ لِغَيْرِهِ كَاشْتِرَاطِ الثَّمَنِ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي.
وَلَنَا أَنَّ الْخِيَارَ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْعَاقِدِ فَيُقَدَّرُ الْخِيَارُ لَهُ اقْتِضَاءً ثُمَّ يُجْعَلُ هُوَ نَائِبًا عَنْهُ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ، فَأَيُّهُمَا أَجَازَ جَازَ، وَأَيُّهُمَا نَقَضَ انْتَقَضَ (وَلَوْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا وَفَسَخَ الْآخَرُ يُعْتَبَرُ السَّابِقُ) لِوُجُودِهِ فِي زَمَانٍ لَا يُزَاحِمُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَلَوْ خَرَجَ الْكَلَامَانِ مِنْهُمَا مَعًا يُعْتَبَرُ تَصَرُّفُ الْعَاقِدِ فِي رِوَايَةٍ وَتَصَرُّفُ الْفَاسِخِ فِي أُخْرَى.
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِدِ أَقْوَى؛ لِأَنَّ النَّائِبَ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْهُ.
وَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْفَسْخَ أَقْوَى؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ وَالْمَفْسُوخُ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ، وَلَمَّا مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفَ رَجَّحْنَا بِحَالِ التَّصَرُّفِ.
وَقِيلَ الْأَوَّلُ قول مُحَمَّدٍ وَالثَّانِي قول أَبِي يُوسُفَ، وَاسْتِخْرَاجُ ذَلِكَ مِمَّا إذَا بَاعَ الْوَكِيلُ مِنْ رَجُلٍ وَالْمُوَكَّلُ مِنْ غَيْرِهِ مَعًا؛ فَمُحَمَّدٌ يَعْتَبِرُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُوَكَّلِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُهُمَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ) يَعْنِي لِغَيْرِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ عَاقِدًا وَإِلَّا فَغَيْرُهُ يَصْدُقُ عَلَى الْبَائِعِ (فَأَيُّهُمَا أَجَازَ) مِنْ الشَّارِطِ الْعَاقِدِ أَوْ الْمَشْرُوطِ لَهُ الَّذِي هُوَ غَيْرُهُ (جَازَ، وَأَيُّهُمَا نَقَضَ) الْبَيْعَ (انْتَقَضَ) فَلَفْظُ مَنْ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ وَهِيَ: أَيُّهُمَا أَجَازَ. خَبَرُهُ، وَإِذَا تَضَمَّنَ الْمُبْتَدَأُ مَعْنَى الشَّرْطِ جَازَ دُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِهِ نَحْوُ: الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ (وَأَصْلُ هَذَا) أَيْ جَوَازُ اشْتِرَاطِهِ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ (أَنَّ جَوَازَهُ اسْتِحْسَانٌ. وَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قول زُفَرَ) وَقول الشَّافِعِيِّ، وَبِقولنَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، إلَّا أَنَّ فِي ثُبُوتِهِ لِلْعَاقِدِ مَعَ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَجْهَيْنِ:
وَفِي وَجْهٍ يَثْبُتُ لَهُمَا، وَفِي وَجْهٍ يَثْبُتُ لِلْغَيْرِ وَحْدَهُ.
وَعَلَى قولهِ الْمُوَافِقِ لِقول زُفَرَ فِيهِ وَجْهَانِ، وَفِي وَجْهٍ يُفْسَخُ الْبَيْعُ، وَفِي وَجْهٍ يَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَجْهُ (قول زُفَرَ أَنَّ الْخِيَارَ مِنْ مُوَاجِبِ الْعَقْدِ وَأَحْكَامِهِ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ كَاشْتِرَاطِ الثَّمَنِ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي) وَاشْتِرَاطُ مِلْكِ الْمَبِيعِ لِغَيْرِ الْمُشْتَرِي، وَاشْتِرَاطُ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ أَوْ الْمَبِيعِ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ انْفِسَاخِ الْبَيْعِ وَانْبِرَامِهِ بِفِعْلِ الْغَيْرِ وَالْبَيْعُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، وَقِيَاسًا عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَمَسُّ إلَى اشْتِرَاطِهِ لِلْغَيْرِ؛ لِأَنَّ شَرْعِيَّتَهُ لِاسْتِخْلَاصِ الرَّأْيِ، وَقَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ قُصُورَ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ غَيْرَ وَاثِقٍ بِهَا فِي ذَلِكَ بَلْ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ يَعْلَمُ حَزْمَهُ وَجَوْدَةَ رَأْيِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْقِيَمِ وَأَحْوَالِ الْبِيَاعَاتِ، فَيَشْتَرِطُ الْخِيَارَ لَهُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِيَّتِهِ فَيَجِبُ تَصْحِيحُهُ، وَأَجْنَبِيَّتُهُ عَنْ الْعَقْدِ إنَّمَا تَمْنَعُ إنْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ مَانِعِيَّتِهِ لَوْ أَجَزْنَاهُ أَصْلًا مُسْتَقِلًّا، لَكِنَّا لَمْ نَعْتَبِرْهُ إلَّا تَبَعًا لِثُبُوتِ الِاشْتِرَاطِ لِلْعَاقِدِ فَيَثْبُتُ اشْتِرَاطُهُ لِنَفْسِهِ اقْتِضَاءً تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ فَيَثْبُتُ لَهُمَا.
وَاسْتُشْكِلَ بِاسْتِلْزَامِهِ ثُبُوتَ مَا هُوَ الْأَصْلُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ، وَالثَّابِتُ بِهِ إنَّمَا هُوَ يَكُونُ تَبَعًا.
قُلْنَا: الْمُلَازَمَةُ مَمْنُوعَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ التَّبَعِيَّةُ، وَالْأَصَالَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوُجُودِ، فَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ فِي قولهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ إنَّمَا هُوَ الْعِتْقُ، فَكَانَ التَّمَلُّكُ مَقْصُودًا لِغَيْرِهِ تَبَعًا لِقَصْدِهِ لِيَصِحَّ الْعِتْقُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوُجُودِ فَكَذَا هُنَا الْمَقْصُودُ أَوَّلًا بِالذَّاتِ لَيْسَ إلَّا الِاشْتِرَاطُ لِلْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْعَاقِدِ بِالْفَرْضِ، فَكَانَ ثُبُوتُهُ لِلْعَاقِدِ تَبَعًا لِلْمَقْصُودِ لِيَصِحَّ الْمَقْصُودُ بِهِ، فَكَانَ ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ وَاقِعًا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الِاقْتِضَاءِ.
هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا حَاجَةَ فِي جَوَابِهِ إلَى تَكَلُّفٍ زَائِدٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَجُرْ اشْتِرَاطُ الثَّمَنِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَتَثْبُتُ كَفَالَتُهُ اقْتِضَاءً كَمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لَهُ وَيَثْبُتُ لِلْعَاقِدِ اقْتِضَاءً؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الثَّمَنَ دَيْنٌ عَلَى الْعَاقِدِ، وَالْكَفَالَةُ لَيْسَ فِيهَا نَقْلُ الدَّيْنِ عَلَى الْكَفِيلِ، فَلَوْ ثَبَتَتْ الْكَفَالَةُ اقْتِضَاءً لِاشْتِرَاطِهِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ أَبْطَلْت الْمُقْتَضَى وَهُوَ اشْتِرَاطُهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَعْنِي بِهِ ثُبُوتَهُ عَلَى الْمُشْتَرَطِ عَلَيْهِ عَلَى مَا هُوَ ثَابِتٌ عَلَى الْعَاقِدِ.
نَعَمْ لَوْ كَفَّلَهُ كَفَالَةً صَرِيحَةً بِالثَّمَنِ الدَّيْنُ صَحَّ (وَعِنْدَ ذَلِكَ) أَيْ صَيْرُورَةِ الْخِيَارِ لَهُمَا (وَيَكُونُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْخِيَارُ، فَأَيُّهُمَا أَجَازَ جَازَ وَأَيُّهُمَا نَقَضَ) الْبَيْعَ (انْتَقَضَ، وَلَوْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا وَفَسَخَ الْآخَرُ يُعْتَبَرُ السَّابِقُ لِوُجُودِهِ فِي زَمَانٍ لَا يُزَاحِمُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَلَوْ خَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا يُعْتَبَرُ تَصَرُّفُ الْعَاقِدِ فِي رِوَايَةِ) كِتَابِ الْبُيُوعِ نَقَضَ أَوْ أَجَازَ (وَالتَّصَرُّفُ) وَاَلَّذِي هُوَ (الْفَسْخُ فِي أُخْرَى) هِيَ رِوَايَةُ كِتَابِ الْمَأْذُونِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْعَاقِدِ أَوْ وَكِيلِهِ الْأَجْنَبِيِّ (وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِدِ أَقْوَى؛ لِأَنَّ النَّائِبَ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْهُ) وَالتَّصَرُّفُ الصَّادِرُ عَنْ أَصَالَةٍ أَقْوَى مِنْ التَّصَرُّفِ الصَّادِرِ عَنْ نِيَابَةٍ.
وَاسْتُشْكِلَ بِمَا إذَا وَكَّلَ رَجُلًا آخَرَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَاهَا مَعًا فَالْوَاقِعُ طَلَاقُ أَحَدِهِمَا لَا طَلَاقُ الْمُوَكِّلِ عَيْنًا، وَلَوْ كَانَ الْمُرَجَّحُ الْأَصِيلَ تَعَيَّنَ طَلَاقُهُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي الطَّلَاقِ سَفِيرٌ كَالْوَكِيلِ فِي النِّكَاحِ فَكَانَتْ عِبَارَتُهُ عِبَارَتَهُ فَالصَّادِرُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا عَيْنُ الصَّادِرِ مِنْ الْآخَرِ (وَجْهُ الثَّانِي أَنْ) لَا تَرْجِيحَ بِكَوْنِهِ أَصِيلًا أَوْ وَكِيلًا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بَعْدَمَا اسْتَفَادَ الْوِلَايَةَ عَلَى الْفِعْلِ كَانَ مِثْلَهُ فَاسْتَوَيَا ثُمَّ يَتَرَجَّحُ بِنَفْسِ التَّصَرُّفِ، وَ(الْفَسْخُ أَقْوَى)؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُ الْمَجَازَ فَيُبْطِلُهُ وَالْإِجَازَةُ لَا تَلْحَقُ الْمَفْسُوخَ فَتُبْرِمُهُ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي الْمَأْذُونِ ثُمَّ قَالُوا (الْأَوَّلُ قول مُحَمَّدٍ وَالثَّانِي قول أَبِي يُوسُفَ، وَاسْتُخْرِجَ) هَذَا التَّرْجِيحُ مِنْ مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَا فِيهَا هِيَ مَا إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَ الْمُوَكِّلُ مِنْ رَجُلٍ وَالْوَكِيلُ مِنْ آخَرَ؛ فَمُحَمَّدٌ جَعَلَ الْبَيْعَ مِمَّنْ بَاعَ مِنْهُ الْمُوَكِّلُ تَرْجِيحًا لِتَصَرُّفِهِ لِلْأَصَالَةِ (وَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُهُمَا) عَلَى السَّوَاءِ فَيَجْعَلُ الْعَبْدَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَيُخَيَّرُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ وَعَيْبِ الشَّرِكَةِ.
وَقِيلَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ فِي النِّصْفِ وَيَنْفَسِخُ فِي النِّصْفِ: أَيْ فِيمَا إذَا شَرَطَ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ لَكِنْ يَتَخَيَّرُ صَاحِبُهُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ.
قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَإِنْ بَاعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ جَازَ الْبَيْعُ) وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ لَا يُفَصِّلَ الثَّمَنَ وَلَا يُعَيِّنَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فِي الْكِتَابِ وَفَسَادُهُ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ كَالْخَارِجِ عَنْ الْعَقْدِ، إذْ الْعَقْدُ مَعَ الْخِيَارِ لَا يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَبَقِيَ الدَّاخِلُ فِيهِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُفَصِّلَ الثَّمَنَ وَيُعَيِّنَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ ثَانِيًا فِي الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومٌ وَالثَّمَنَ مَعْلُومٌ، وَقَبُولُ الْعَقْدِ فِي الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ مُكْسِدٍ لِلْعَقْدِ لِكَوْنِهِ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ.
وَالثَّالِثُ أَنْ يُفَصِّلَ وَلَا يُعَيِّنَ.
وَالرَّابِعُ أَنْ يُعَيِّنَ وَلَا يُفَصِّلَ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ فِي الْوَجْهَيْنِ: إمَّا لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ أَوْ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ بَاعَ عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إلَخْ، وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ) فِي ثَلَاثَةٍ الْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَفِي وَاحِدَةٍ صَحِيحٌ (أَحَدُهَا أَنْ لَا يُفَصِّلَ الثَّمَنَ وَلَا يُعَيِّنَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ) وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ فِي قولهِ (وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) الْمَذْكُورُ (فِي الْكِتَابِ) وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْبِدَايَةَ؛ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ شَرْحُهَا (وَفَسَادُهَا لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ) جَمِيعًا، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ فِيهِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَكَانَ كَأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ إنَّمَا هُوَ فِي الْآخَرِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ مَنْ فِيهِ الْخِيَارُ، ثُمَّ ثَمَنُ الْمَبِيعِ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَا يَنْقَسِمُ فِي مِثْلِهِ عَلَى الْمَبِيعِ بِالْأَجْزَاءِ.
وَثَانِيهَا، وَهُوَ الْوَجْهُ الْجَائِزُ أَنْ يُعَيِّنَ كُلًّا بِأَنْ يَقول بِعْتُك كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ فِي هَذَا لِانْتِفَاءِ الْمُفْسِدِ مِنْ جَهَالَةِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنْ انْتَفَى مُفْسِدُ الْجَهَالَةِ فَقَدْ يَتَحَقَّقُ مُفْسِدٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ، وَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْحُكْمِ شَرْطًا لِانْعِقَادِهِ فِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ الْخِيَارُ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ، وَحَيْثُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ أَجَابَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ الْإِشَارَةِ إلَى السُّؤَالِ بِقولهِ (وَقَبُولُ الْعَقْدِ فِي الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ لَكِنَّ هَذَا غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْعَقْدِ لِكَوْنِهِ) أَيْ مَنْ فِيهِ الْخِيَارُ (مَحَلًّا لِلْبَيْعِ) فَهُوَ (كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ) وَبَاعَهُمَا بِأَلْفٍ حَيْثُ يَنْفُذُ الْبَيْعُ فِي الْقِنِّ بِحِصَّتِهِ وَإِنْ كَانَ قَبُولُ الْعَقْدِ فِي الْمُدَبَّرِ شَرْطًا فِيهِ وَذَلِكَ لِدُخُولِ الْمُدَبَّرِ فِي الْبَيْعِ لِمَحَلِّيَّتِهِ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ وَلِهَذَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ جَازَ فَكَانَ الْقَبُولُ شَرْطًا صَحِيحًا، بِخِلَافِ مَا شُبِّهَ بِهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا فَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِحَالٍ فَكَانَ اشْتِرَاطُ قَبُولِهِ اشْتِرَاطَ شَرْطٍ فَاسِدٍ، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ فِي الْبَيْعِ خِلَافٌ سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ.
وَثَالِثُهَا يُفَصِّلُ وَلَمْ يُعَيِّنْ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ كَأَنْ يَقول الْبَائِعُ بِعْتُك كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا فَفَسَادُهُ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ بِسَبَبِ جَهَالَةِ مَنْ فِيهِ الْخِيَارُ وَرَابِعُهَا أَنْ يُعَيِّنَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ وَلَا يُفَصِّلَ الثَّمَنَ وَهُوَ أَنْ يَقول بِعْتُك هَذَيْنِ بِأَلْفٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ فِي هَذَا وَالْفَسَادُ فِيهِ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا بِتَعَيُّنِ مَنْ فِيهِ الْخِيَارُ إلَّا أَنَّ ثَمَنَهُ مَجْهُولٌ لِمَا قُلْنَا إنَّ الثَّمَنَ لَا يَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا بِالسَّوِيَّةِ.
فَإِنْ قُلْت: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الَّذِي لَمْ يُعَيَّنْ فِيهِ الثَّمَنُ وَبَيْنَ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدَيْنِ فِي الْبَيْعِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فَإِذَا أَحَدُهُمَا مُدَبَّرٌ أَوْ مُكَاتَبٌ أَوْ جَارِيَتَيْنِ فَإِذَا إحْدَاهُمَا أُمُّ وَلَدٍ حَيْثُ يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الْقِنِّ بِحِصَّتِهِ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ مَعَ أَنَّ ثَمَنَ كُلٍّ مِنْهُمَا مَجْهُولُ الْكَمْيَّةِ حَالَ الْعَقْدِ وَلَا يَصِحُّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ بِالْحِصَّةِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِالْفَرْقِ وَقَالَ: قِيَاسُ مَا ذُكِرَ هُنَا أَنْ لَا يَجُوزَ الْعَقْدُ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ فِي الْقِنِّ وَيَصِيرُ مَا ذُكِرَ هُنَا رِوَايَةً فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ اشْتَغَلَ بِالْفَرْقِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ هُنَا مُقْتَرِنٌ بِالْعَقْدِ لَفْظًا وَمَعْنًى، فَأَثَّرَ الْفَسَادَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَمْنَعُ الِانْعِقَادَ فِي الْمَشْرُوطِ فِيهِ فَيَكُونُ كَالْمَعْدُومِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ فِيهِ ابْتِدَاءً فَيَنْعَقِدُ فِي الْآخَرِ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ فَإِنَّ الْمَانِعَ مُقْتَرِنٌ فِيهَا مَعْنًى لَا لَفْظًا فَيَدْخُلُ الْمُدَبَّرُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ مَحَلِّيَّتِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ بِنَاءً عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمْ أَنْفُسَهُمْ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ حُكْمُ قَاضٍ يُسْقِطُهُ، وَعَلَى مَا ذُكِرَ هُنَا يَتَفَرَّعُ مَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: بَاعَ عَبْدَيْنِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِيهِمَا وَقَبَضَهُمَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى إجَازَتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فِي الْبَاقِي بِالْحِصَّةِ؛ وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَقَضْت الْبَيْعَ فِي هَذَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا كَانَ لَغْوًا كَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَخِيَارُهُ فِيهِمَا بَاقٍ، كَمَا كَانَ، كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا وَاحِدًا أَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فَنَقَضَ الْبَيْعَ فِي نِصْفِهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَ بِعَشْرَةٍ وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَذَا الثَّلَاثَةُ، فَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعَةَ أَثْوَابٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ، وَهُوَ قول زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ شَرْعَ الْخِيَارِ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ لِيَخْتَارَ مَا هُوَ الْأَرْفَقُ وَالْأَوْفَقُ، وَالْحَاجَةُ إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيْعِ مُتَحَقِّقَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى اخْتِيَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَوْ اخْتِيَارِ مَنْ يَشْتَرِيهِ لِأَجْلِهِ، وَلَا يُمَكِّنُهُ الْبَائِعُ مِنْ الْحَمْلِ إلَيْهِ إلَّا بِالْبَيْعِ فَكَانَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِالثَّلَاثِ لِوُجُودِ الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ وَالرَّدِيءِ فِيهَا، وَالْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي الثَّلَاثِ لِتَعْيِينِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، وَكَذَا فِي الْأَرْبَعِ، إلَّا أَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهَا غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ وَالرُّخْصَةُ ثُبُوتُهَا بِالْحَاجَةِ وَكَوْنُ الْجَهَالَةِ غَيْرَ مُفْضِيَةٍ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَلَا تَثْبُتُ بِأَحَدِهِمَا.
ثُمَّ قِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الْعَقْدِ خِيَارُ الشَّرْطِ مَعَ خِيَارِ التَّعْيِينِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
(وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ)، فَيَكُونُ ذِكْرُهُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ وِفَاقًا لَا شَرْطًا؛ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا بُدَّ مِنْ تَوْقِيتِ خِيَارِ التَّعْيِينِ بِالثَّلَاثِ عِنْدَهُ وَبِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ أَيَّتُهَا كَانَتْ عِنْدَهُمَا.
ثُمَّ ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ وَفِي بَعْضِهَا اشْتَرَى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي الْحَقِيقَةِ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ أَمَانَةٌ، وَالْأَوَّلُ تَجَوُّزٌ وَاسْتِعَارَةٌ.
وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا أَوْ تَعَيَّبَ لَزِمَهُ الْبَيْعُ فِيهِ بِثَمَنِهِ وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْأَمَانَةِ لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ بِالتَّعَيُّبِ، وَلَوْ هَلَكَا جَمِيعًا مَعًا يَلْزَمُهُ نِصْفُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِشُيُوعِ الْبَيْعِ وَالْأَمَانَةِ فِيهِمَا.
وَلَوْ كَانَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُ أَنْ يَرَهُمَا جَمِيعًا.
وَلَوْ مَاتَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فَلِوَارِثِهِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ خِيَارُ التَّعْيِينِ لِلِاخْتِلَاطِ، وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ.
وَأَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ لَا يُورَثُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ إلَخْ) الْمُرَادُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَحَدَ ثَوْبَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً غَيْرَ مُعَيِّنٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَ، وَهَذَا خِيَارُ التَّعْيِينِ: يَعْنِي أَيَّ الثَّوْبَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَةِ شَاءَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِيمَا يُعَيِّنُهُ بَعْدَ تَعْيِينِهِ لِلْمَبِيعِ.
أَمَّا إذَا قَالَ بِعْتُك عَبْدًا مِنْ هَذَيْنِ بِمِائَةٍ وَلَمْ يَذْكُرْ قولهُ عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ فِي أَيِّهِمَا شِئْت لَا يَجُوزُ اتِّفَاقًا كَقولهِ بِعْتُك عَبْدًا مِنْ عَبِيدِي وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدٌ أَرْبَعَةً لَا يَجُوزُ (وَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ) فِي أَحَدِ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ كَمَا يَفْسُدُ فِي الْأَرْبَعَةِ (وَهُوَ) أَيْ الْقِيَاسُ (قول زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ شَرْعَ الْخِيَارِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ لِلْحَاجَةِ إلَى رَفْعِ الْغَبْنِ لِيَخْتَارَ مَا هُوَ الْأَرْفَقُ وَالْأَوْفَقُ، وَالْحَاجَةُ إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيْعِ مُتَحَقِّقَةٌ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ) قَدْ (يَحْتَاجُ إلَى رَأْيِ غَيْرِهِ) فِي اخْتِيَارِ الْمَبِيعَاتِ وَهُوَ لَيْسَ بِحَاضِرٍ وَلَيْسَ يَحْضُرُ لِعُلُوِّهِ أَوْ لِتَحَجُّبِهَا خُصُوصًا إذَا كَانَتْ أَهْلَهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا تَلِجُ الْأَسْوَاقَ وَتُمَارِسُ الرِّجَالَ لِشِرَاءِ حَاجَتِهَا فَيَحْتَاجُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الْعَدَدَ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ لِيَخْتَارَ الْأَوْفَقَ (وَلَا يُمَكِّنُهُ الْبَائِعُ مِنْ حَمْلِهِ إلَيْهِ إلَّا مَبِيعًا فَكَانَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ) فَيَجُوزُ (غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ تَنْدَفِعُ بِالثَّلَاثِ لِتَحَقُّقِ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ وَالْوَسَطِ فِيهَا) فَيَنْدَفِع بِحَمْلِ وَاحِدٍ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ فَلَا تُشْرَعُ الرُّخْصَةُ فِي الزَّائِدِ؛ لِأَنَّ شَرْعَ الرُّخْصَةِ لِلْحَاجَةِ، وَقول الْمُصَنِّفِ (وَالْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ) جَوَابٌ عَنْ تَعْلِيلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ بِهَا، وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ جَوَازَ هَذَا الْبَيْعِ لِلْحَاجَةِ إلَى اخْتِيَارِ مَا هُوَ الْأَرْفَقُ وَالْأَوْفَقُ لِمَنْ يَقَعُ الشِّرَاءِ لَهُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْبَائِعِ بَلْ يَخْتَصُّ خِيَارُ التَّعْيِينِ بِالْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا حَاجَةَ لَهُ إلَى اخْتِيَارِ الْأَوْفَقِ وَالْأَرْفَقِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ مَعَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ وَهُوَ أَدْرَى بِمَا لَاءَمَهُ مِنْهُ فَيُرَدُّ جَانِبُ الْبَائِعِ إلَى الْقِيَاسِ؛ فَلِهَذَا نَصَّ فِي الْمُجَرَّدِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ يَجُوزُ مَعَ خِيَارِ الْمُشْتَرِي فَيَجُوزُ مَعَ خِيَارِ الْبَائِعِ قِيَاسًا عَلَى الشَّرْطِ، وَأَنْتَ عَرَفْت الْفَرْقَ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّهُ هَلْ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ هَذَا الْبَيْعِ أَعْنِي الْبَيْعَ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ التَّعْيِينِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الصُّورَةِ.
قِيلَ نَعَمْ كَمَا (هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) تَصْوِيرًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَنَسَبَهُ قَاضِي خَانْ إلَى أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: فِي جَامِعِهِ هُوَ الصَّحِيحُ (وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ) وَغَيْرِهِ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ الصُّورَةِ وَقَعَ اتِّفَاقًا لَا قَيْدًا، وَصَحَّحَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: الصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَهُوَ قول ابْنِ شُجَاعٍ.
وَجْهُ الِاشْتِرَاطِ وَهُوَ قول الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ هَذَا الْعَقْدِ لِجَهَالَةِ وَقْتِ الْمَبِيعِ وَقْتَ لُزُومِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا جَازَ اسْتِحْسَانًا بِمَوْضِعِ السُّنَّةِ وَهُوَ شَرْطُ الْخِيَارِ فَلَا يَصِحُّ بِدُونِهِ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الْكَلَامِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ شَرْطَ الْإِلْحَاقِ بِالدَّلَالَةِ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ الصُّورَةِ الْمُلْحَقَةِ الصُّورَةُ الثَّابِتَةُ بِالْعِبَارَةِ، وَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ الْبَيْعُ بِخِيَارِ النَّقْدِ إلَّا فِي بَيْعِ خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْبَيْعِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ مِمَّا أُثْبِتَ بِدَلَالَةِ نَصِّ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَلَا يُعْلَمُ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُمَا إنْ تَرَاضَيَا عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ مَعَ خِيَارِ التَّعْيِينِ ثَبَتَ حُكْمُهُ، وَهُوَ جَوَازُ أَنْ يَرُدَّ كُلًّا مِنْ الثَّوْبَيْنِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَوْ بَعْدَ تَعْيِينِ الثَّوْبِ الَّذِي فِيهِ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ التَّعْيِينِ فِي هَذَا الْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ شَرْطُ الْخِيَارِ أَنَّهُ عَيْنُ الْمَبِيعِ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ لَا أَنَّهُ يَسْقُطُ خِيَارُهُ، وَلَوْ رَدَّ أَحَدَهُمَا كَانَ بِخِيَارِ التَّعْيِينِ وَيَثْبُتُ الْبَيْعُ فِي الْآخَرِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَلَوْ مَضَتْ الثَّلَاثَةُ قَبْلَ رَدِّ شَيْءٍ وَتَعْيِينِهِ بَطَلَ خِيَارُ الشَّرْطِ وَانْبَرَمَ الْبَيْعُ فِي أَحَدِهِمَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعَيِّنَ وَلَوْ مَاتَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الثَّلَاثَةِ تَمَّ بَيْعُ أَحَدِهِمَا وَعَلَى الْوَارِثِ التَّعْيِينُ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا يُورَثُ وَالتَّعْيِينُ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ لِيُمَيِّزَ مِلْكَهُ مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا؛ وَلِهَذَا لَا يُتَوَقَّفُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكِ الْمُخْتَلِطِ مَالُهُ بِمَالِ غَيْرِهِ، فَمَا لَمْ يَطْلُبْ شَرِيكُهُ الْقِسْمَةَ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ وَلَا يَفُوتُ وَقْتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ مَعَهُ لَا بُدَّ مِنْ تَوْقِيتِ خِيَارِ التَّعْيِينِ بِالثَّلَاثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُهُ، وَعِنْدَهُمَا أَيُّ مُدَّةٍ تَرَاضَيَا عَلَيْهَا بَعْدَ كَوْنِهَا مَعْلُومَةً، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ فَمَضَتْ الْمُدَّةُ حَتَّى انْبَرَمَ فِي أَحَدِهِمَا وَلَزِمَ التَّعْيِينُ أَنْ يَتَقَيَّدَ التَّعْيِينُ بِثَلَاثَةٍ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَحِينَئِذٍ فَإِطْلَاقُ الطَّحَاوِيِّ قولهُ خِيَارُ الشَّرْطِ مُؤَقَّتٌ بِالثَّلَاثِ فِي قولهِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِهَا عِنْدَهُمَا وَخِيَارُ التَّمْيِيزِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ طُولِبَ بِالْفَرْقِ عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ حَيْثُ قَصَرَ الْمُدَّةَ عَلَى الثَّلَاثِ فِي خِيَارِ النَّقْدِ أَخْذًا بِالْقِيَاسِ وَلَمْ يُقْصِرْ فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ عَلَيْهَا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي خِيَارِ النَّقْدِ تَعَلُّقًا صَرِيحًا بِأَدَاةِ الشَّرْطِ فَلَا يَكُونُ الْوَارِدُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَارِدًا فِيهِ بِخِلَافِ خِيَارِ التَّعْيِينِ لَيْسَ فِي صَرِيحِ التَّعْلِيقِ فَكَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّ أَخْذَهُ فِي خِيَارِ النَّقْدِ فِي الثَّلَاثَةِ بِأَثَرٍ لِابْنِ عُمَرَ فِيهِ، وَنَفْيُ الزَّائِدِ بِالْقِيَاسِ، وَأَثَرُ ابْنِ عُمَرَ نَقَلَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ مَوْلَى ابْنِ الْبَرْصَاءِ قَالَ: بِعْت مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ جَارِيَةً عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَنَا، فَأَجَازَ ابْنُ عُمَرَ هَذَا الْبَيْعَ.
وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُطَابِقُ قول الْمُصَنِّفِ فِي مَسْأَلَةِ خِيَارِ النَّقْدِ فِيمَا تَقَدَّمَ؛ فَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ بِالْأَثَرِ، وَفِي هَذَا بِالْقِيَاسِ.
قولهُ: (وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا أَوْ تَعَيَّبَ لَزِمَهُ الْبَيْعُ فِيهِ بِثَمَنِهِ وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْأَمَانَةِ لِامْتِنَاعِ الرَّدِّ بِالتَّعَيُّبِ) عَلَّلَهُ الْمُصَنِّفُ بِامْتِنَاعِ الرَّدِّ بِالتَّعْيِيبِ فَيُعْرَفُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا إذَا كَانَ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُمَا لِامْتِنَاعِ رَدِّهِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ عِنْدَهُ وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْهَلَاكَ لَا يَعْرَى عَنْ مُقَدِّمَةِ عَيْبٍ، فَلَوْ هَلَكَ الْآخَرُ بَعْدَهُ هَلَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ أَنَّهُ أَمَانَةٌ، أَمَّا لَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ تَعَيَّبَ فَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِثَمَنِهِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَلَوْ هَلَكَ الْكُلُّ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ (وَلَوْ هَلَكَا مَعًا) بَعْدَ الْقَبْضِ (لَزِمَهُ نِصْفُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِشُيُوعِ الْبَيْعِ وَالْأَمَانَةِ) فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِكَوْنِهِ الْمَبِيعَ مِنْ الْآخَرِ، وَكَذَا إذَا هَلَكَا عَلَى التَّعَاقُبِ وَلَمْ يُدْرَ السَّابِقُ مِنْهُمَا.
وَأَثَرُ هَذَا إنَّمَا يَظْهَرُ إذَا كَانَ ثَمَنُهُمَا مُتَفَاوِتَ الْكَمْيَّةِ، فَإِنْ كَانَا مُتَّفِقَيْنِ فَلَا، وَكَذَا إذَا هَلَكَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَاخْتَلَفَا فِي الْهَالِكِ أَوَّلًا فَادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّهُ أَكْثَرُهُمَا ثَمَنًا وَقَالَ الْمُشْتَرِي الْأَقَلُّ فَإِنَّ الْقول قول الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قول أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.
وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقول أَوَّلًا يَتَحَالَفَانِ فَأَيُّهُمَا نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى الْآخَرِ، وَإِنْ حَلَفَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا هَلَكَا مَعًا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قول مُحَمَّدٍ وَأَيُّهُمَا بُيِّنَ قُبِلَ، فَإِنْ أَقَامَاهَا قُضِيَ بِبَيِّنَةِ الْبَائِعِ لِإِثْبَاتِهَا الزِّيَادَةَ، وَلَوْ تَعَيَّبَا مَعًا بَطَلَ خِيَارُ الشَّرْطِ وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ رَدُّهُمَا وَخِيَارُ التَّعْيِينِ عَلَى حَالِهِ فَيُمْسِكُ أَيَّهُمَا شَاءَ بِثَمَنِهِ وَيَرُدُّ الْآخَرَ، وَلَا يَغْرَمُ مِنْ قِيمَةِ عَيْبِ الْمَرْدُودِ شَيْئًا اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الْمَعِيبَ مَحَلٌّ لِابْتِدَاءِ الْبَيْعِ أَيْضًا، بِخِلَافِ الْهَالِكِ لَيْسَ مَحَلًّا لِابْتِدَائِهِ فَلَيْسَ مَحَلًّا لِتَعْيِينِهِ، وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا فَقَبَضَهُمَا فَأَحَدُهُمَا مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ وَالْآخَرُ أَمَانَةٌ، وَلَوْ مَاتَا جَمِيعًا ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ نِصْفَ ثَمَنِ كُلٍّ.
فَإِنْ قِيلَ: مِنْ أَيْنَ يَتَعَيَّنُ الْمَعِيبُ لِلْبَيْعِ دُونَ الْأَمَانَةِ وَأَحَدُهُمَا لَا عَلَى التَّعْيِينِ مَبِيعٌ كَمَا أَنَّ أَحَدَهُمَا لَا عَلَى التَّعْيِينِ أَمَانَةٌ وَامْتِنَاعُ الرَّدِّ لِلْعَيْبِ الْمُعَلَّلِ بِهِ فَرْعُ اعْتِبَارٍ أَنَّهُ هُوَ الْمَبِيعُ وَفِيهِ التَّحَكُّمُ.
إذْ اعْتِبَارُ أَنَّهُ الْمَبِيعُ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِهِ الْأَمَانَةَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ اعْتِبَارَهُ الْمَبِيعَ عَمَلٌ بِالدَّلِيلِ الْحَادِثِ وَهُوَ الْبَيْعُ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْغَنِيِّ فِي مُخْتَلِفَاتِهِ.
وَأَمَّا عَدَمُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَمِينِ فَبِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يَضْمَنُ الْآخَرُ إذَا هَلَكَ ثَانِيًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ؟ الْجَوَابُ بِمَنْعِ أَنَّهُ كَتِلْكَ بَلْ الْمَقْبُوضُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى حَقِيقَةِ الشِّرَاءِ لِأَحَدِهِمَا، وَلَيْسَ هُنَا شَيْءٌ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ مَا عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ لَا يُنْجَزُ فِيهِ عَقْدٌ بَلْ تَعَيُّنُ الثَّمَنِ فَقَطْ وَهُنَا تُنْجَزُ تَمَامُ الْعَقْدِ فَلَزِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ قَبْضَ الْعَيْنَيْنِ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا غَيْرُ عَيْنٍ مَبِيعًا وَأَحَدَهُمَا غَيْرُ عَيْنٍ أَمَانَةً، فَإِذَا فُرِضَ وُجُودِ مَا يُعَيِّنُ الْمَبِيعَ مِنْهُمَا مِنْ الْأَسْبَاب تُعِيِّنَ الْآخَرُ لِلْأَمَانَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِأَيِّ شَيْءٍ انْعَكَسَ حُكْمُ طَلَاقِ إحْدَى الزَّوْجَتَيْنِ وَعِتْقُ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ هُنَا حَيْثُ يَتَعَيَّنُ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ الْبَاقِي لَا الْهَالِكُ وَهُنَا يَتَعَيَّنُ الْهَالِكُ لِلْبَيْعِ؟ أَجَابَ عَلِيٌّ الْقُمِّيُّ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْحَاصِلِ؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ يَهْلِكُ عَلَى مِلْكِهِ فِي الْمَسَائِلِ كُلِّهَا، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا هَلَكَ كُلٌّ مِنْ الزَّوْجَةِ وَالْعَبْدِ عَلَى مِلْكِهِ تَعَيَّنَ الْبَاقِي بِالضَّرُورَةِ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَإِذَا هَلَكَ الْعَبْدُ هُنَا عَلَى مِلْكِهِ تَعَيَّنَ الْبَاقِي لِلْأَمَانَةِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ حَقِيقَةَ السُّؤَالِ أَنَّهُ لِأَيِّ شَيْءٍ جُعِلَ الْهَالِكُ هُنَا هُوَ الْمَحَلُّ لِلتَّصَرُّفِ دُونَ الْبَاقِي، وَهُنَاكَ جُعِلَ الْمَحَلُّ لِلتَّصَرُّفِ الْبَاقِي دُونَ الْهَالِكِ مَعَ التَّصَرُّفِ فِي الْكُلِّ فِي الْأَحَدِ الدَّائِرِ بَيْنَ الْمُعَيَّنَاتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ هُنَا لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلرَّدِّ بِالْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَاهُ مِنْ الْمُخْتَلِفَاتِ فَتَعَيَّنَ الْعَقْدُ فِيهِ بِتَعَيُّنِ الْبَاقِي لِلضَّرُورَةِ، وَحِينَ أَشْرَفَتْ الزَّوْجَةُ وَالْعَبْدُ عَلَى الْهَلَاكِ لَمْ يَخْرُجَا عَنْ كَوْنِهِمَا مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، هُوَ التَّصَرُّفُ فَتَعَيَّنَ الْبَاقِي لَهُمَا ضَرُورَةً، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَشْرَةٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ رَدُّ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَهُمَا جَمِيعًا حَتَّى مَلَكَ إتْمَامَ الْعَقْدِ فِيهِمَا، فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّ أَحَدِهِمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّ الْآخَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ التَّمَامِ، وَهُنَا الْعَقْدُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ أَحَدَهُمَا حَتَّى لَا يَمْلِكَ إتْمَامَ الْعَقْدِ فِيهِمَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَبِيعَتْ دَارٌ أُخْرَى بِجَنْبِهَا فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ رِضًا)؛ لِأَنَّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهِ الْمِلْكَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ إلَّا لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ وَذَلِكَ بِالِاسْتِدَامَةِ فَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ سُقُوطَ الْخِيَارِ سَابِقًا عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجِوَارَ كَانَ ثَابِتًا، وَهَذَا التَّقْرِيرُ يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ) ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ عِنْدَهُمَا (فَبِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِهَا فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ رِضًا) بِالْبَيْعِ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ، وَاسْتَفَدْنَا مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ اشْتَرَى دَارًا بِالْخِيَارِ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ بِهَا فِيمَا يُبَاعُ بِجَنْبِهَا؛ لِأَنَّ لَهُ الْإِجَازَةَ وَالرِّضَا وَالشُّفْعَةُ بِهَا رِضًا بِهَا؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهِ لِلْمِلْكِ فِيمَا يُشْفَعُ بِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الشَّأْنُ (مَا ثَبَتَتْ) الشُّفْعَةُ (إلَّا لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ وَذَلِكَ) أَيْ ضَرَرُ الْجِوَارِ يَحْصُلُ (بِاسْتِدَامَةِ) الْمِلْكِ فَحَيْثُ شَفَعَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَقِيمٌ لِلْمِلْكِ (فَيَتَضَمَّنُ سُقُوطَ الْخِيَارِ سَابِقًا عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ الْمَلِكُ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجِوَارَ كَانَ ثَابِتًا، وَهَذَا التَّقْرِيرُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً)؛ لِأَنَّهُ الْقَائِلُ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَشْفَعُ بِهَا، وَقَدْ قَالَ يَشْفَعُ بِهَا فَاحْتَاجَ إلَى جَعْلِهِ فِعْلًا يُفِيدُ الرِّضَا بِالْبَيْعِ فَيَنْبَرِمُ الْبَيْعُ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ عَقْدِ الْخِيَارِ فَيَكُونُ سَابِقًا عَلَى شِرَاءِ مَا فِيهِ الشُّفْعَةُ، أَمَّا عَلَى قولهِمَا فَلَا حَاجَةَ؛ لِأَنَّهُمَا قَائِلَانِ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ مَلَكَهَا فَتَتَّجِهُ لَهُ الشُّفْعَةُ بِهَا.
وَالْوَجْهُ أَنَّهُمَا أَيْضًا يَحْتَاجَانِ إلَى زِيَادَةٍ ضِمْنِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا عِنْدَهُمَا فَلَهُ رَفْعُهُ فَهُوَ مُزَلْزَلٌ وَالشُّفْعَةُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْمُسْتَمِرِّ، فَحِينَ شَفَعَ دَلَّ عَلَى قَصْدِهِ اسْتِبْقَاءَ الْمِلْكِ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ فَلَا يُفْسَخُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَدَمُ هَذَا التَّقْرِيرِ قَالَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا، وَذَلِكَ يَكْفِيهِ لِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِهَا كَالْمَأْذُونِ الْمُسْتَغْرَقِ بِالدَّيْنِ وَالْمُكَاتَبِ فَإِنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ الشُّفْعَةَ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكَا رَقَبَةَ الدَّارِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ هُنَاكَ لَمْ يَصِرْ أَحَقَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا، وَلَوْ اُعْتُبِرَ الْمَأْذُونُ وَالْمُكَاتَبُ كَالْوَكِيلِ عَنْ السَّيِّدِ فِي الْحَالِ كَانَ حَسَنًا وَرَجَعَ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ، وَهَذَا وَلَوْ كَانَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ فِي الدَّارِ الْمَبِيعَةِ إلَى جَانِبِهَا، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ حَتَّى إذَا رَآهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بَعْدَمَا شَفَعَ بِهَا، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ صَرِيحًا لَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالرُّؤْيَةِ فَقَبْلَهَا هُوَ عَدَمٌ، فَحَقِيقَةُ قولنَا ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ أَنَّهُ إذَا رَآهَا ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَكَذَا لَا يَبْطُلُ خِيَارُ الْعَيْبِ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ بِهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلَانِ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا فَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَرُدَّهُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ خِيَارُ الْعَيْبِ وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ، لَهُمَا أَنَّ إثْبَاتَ الْخِيَارِ لَهُمَا إثْبَاتُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ صَاحِبِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ.
وَلَهُ أَنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ غَيْرَ مَعِيبِ الشَّرِكَةِ، فَلَوْ رَدَّهُ أَحَدُهُمَا رَدَّهُ مَعِيبًا بِهِ وَفِيهِ إلْزَامُ ضَرَرٍ زَائِدٍ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُمَا الرِّضَا بِرَدِّ أَحَدِهِمَا لِتَصَوُّرِ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الرَّدِّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلَانِ عَبْدًا) مَثَلًا (عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ وَرَضِيَ أَحَدُهُمَا بِالْبَيْعِ) بَطَلَ خِيَارُ الْآخَرِ (فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ خِيَارُ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ) بِأَنْ اشْتَرَى الرَّجُلَانِ شَيْئًا فَاطَّلَعَا عَلَى عَيْبٍ فَرَضِيَ بِهِ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ رَدُّهُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ أَوْ اشْتَرَيَا وَلَمْ يَرَيَا فَعِنْدَ الرُّؤْيَةِ رَضِيَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ (وَلَهُمَا أَنَّ إثْبَاتَ الْخِيَارِ لَهُمَا إثْبَاتُهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا يَسْقُطُ حَقُّهُ بِإِسْقَاطِ صَاحِبِهِ) حَقَّهُ (وَلَهُ أَنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ غَيْرَ مَعِيبٍ بِعَيْبِ الشَّرِكَةِ فَلَوْ رَدَّهُ أَحَدُهُمَا رَدَّهُ مَعِيبًا بِهِ وَفِيهِ إلْزَامُ ضَرَرٍ زَائِدٍ) فَإِنَّ الْبَائِعَ كَانَ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بِهِ مَتَى شَاءَ كَيْفَ شَاءَ فَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِطَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ، وَالْخِيَارُ مَا شُرِعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ أَحَدِهِمَا بِإِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْآخَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الضَّرَرُ حَصَلَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ.
قُلْنَا مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ فَإِنَّ مَعَ خِيَارِ الْمُشْتَرِي يَخْرُجُ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا شَرَطَ الْخِيَارُ لَهُمَا فَقَدْ رَضِيَ بِهَذَا الْعَيْبِ.
أُجِيبَ أَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِهِ فِي مِلْكِهِمَا.
فَإِنْ قِيلَ: بَلْ رَضِيَ بِهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ مَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَ فَسْخٍ وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ إبْرَامٍ فَشَرْطُهُ رِضًا بِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ.
أَجَابَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ بِقولهِ (وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةٍ إلَى آخِرِهِ) يَعْنِي لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ شَرَطَهُ لَهُمَا أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِفَسْخِ أَحَدِهِمَا لِجَوَازِ كَوْنِهِ لِرِضَاهُ بِفَسْخِهِمَا، فَإِذَا جَازَ هَذَا كَانَ هُوَ الظَّاهِرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّصَرُّفَ مِنْ الْعَاقِلِ إذَا احْتَمَلَ كُلًّا مِنْ أَمْرَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا ضَرَرٌ دُونَ الْآخَرِ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ الْمُحْتَمَلَ الَّذِي لَا ضَرَرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ بَلْ اللَّازِمَ عَدَمُ قَصْدِ الْعَاقِلِ إلَى مَا يَضُرُّهُ بِلَا فَائِدَةٍ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ أَوْ كَاتِبٌ وَكَانَ بِخِلَافِهِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ)؛ لِأَنَّ هَذَا وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ فَيُسْتَحَقُّ فِي الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ، ثُمَّ فَوَاتُهُ يُوجِبُ التَّخْيِيرَ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِهِ دُونَهُ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى اخْتِلَافِ النَّوْعِ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ فِي الْأَغْرَاضِ، فَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِعَدَمِهِ بِمَنْزِلَةِ وَصْفِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَصَارَ كَفَوَاتِ وَصْفِ السَّلَامَةِ، وَإِذَا أَخَذَهُ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً فِي الْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ أَوْ كَاتِبٌ) أَيْ حِرْفَتُهُ ذَلِكَ (فَكَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ) وَلَوْ مَاتَ هَذَا الْمُشْتَرِي انْتَقَلَ الْخِيَارُ إلَى وَرَثَتِهِ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ فِي ضِمْنِ مِلْكِ الْعَيْنِ، وَهَذَا الشَّرْطُ حَاصِلُهُ شَرْطُ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ فِي الْبَيْعِ، وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ وَكَانَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ، فَكَانَ شَرْطُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَرَرٌ صَحِيحًا، وَالْأَصْلُ فِي اشْتِرَاطِ الْأَوْصَافِ أَنَّ مَا كَانَ وَصْفًا لَا غَرَرَ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَمَا فِيهِ غَرَرٌ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتِرَاطُهُ بِمَعْنَى الْبَرَاءَةِ مِنْ وُجُودِهِ، وَهُوَ مَا لَيْسَ مَرْغُوبًا فِيهِ، فَعَلَى هَذَا يَتَفَرَّعُ مَا لَوْ بَاعَ نَاقَةً أَوْ شَاةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ أَوْ تَحْلِبُ كَذَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ زِيَادَةً مَجْهُولَةً لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا، حَتَّى لَوْ شَرَطَ أَنَّهَا حَلُوبٌ جَازَ، كَمَا إذَا شَرَطَ فِي الْفَرَسِ أَنَّهُ هِمْلَاجٌ وَفِي الْكَلْبِ أَنَّهُ صَائِدٌ حَيْثُ يَصِحُّ، وَمِنْهُ شَرْطُ كَوْنِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَشَرْطُ كَوْنِ الثَّمَنِ مَكْفُولًا بِهِ.
أَمَّا لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ فَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ.
قِيلَ لَا يَجُوزُ كَالنَّاقَةِ وَالشَّاةِ، وَقِيلَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْحَبَلَ فِي الْجَوَارِي عَيْبٌ بِخِلَافِ الْبَهَائِمِ فَكَانَ ذِكْرُهُ لِلْبَرَاءَةِ عَنْ هَذَا الْعَيْبِ، وَقِيلَ إنْ اشْتَرَاهَا لِيَتَّخِذَهَا ظِئْرًا فَشَرَطَ أَنَّهَا حَامِلٌ يَعْنِي ذَكَرَ غَرَضَهُ ذَلِكَ لِلْبَائِعِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ زِيَادَةً مَجْهُولَةً فِي وُجُودِهَا غَرَرٌ فَكَانَتْ كَالنَّاقَةِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ جَازَ حَمْلًا لِقَصْدِ الْبَرَاءَةِ مِنْ عَيْبِ الْحَبَلِ وَمِنْهُ لَوْ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ مَعِيبٌ فَوَجَدَهُ سَلِيمًا صَحَّ، وَكَانَ لَهُ.
هَذَا وَمَذْهَبُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي شَرْطِ الْحَمْلِ فِي الْبَقَرِ وَالْجَارِيَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي اشْتِرَاطِ أَنَّهَا حَلُوبَةٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ هُنَا أَصْلٌ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ اللَّبَنُ، قَالَ مُحَمَّدٌ فِي مَسْأَلَتِنَا: فَإِنْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَوَجَدَهُ كَاتِبًا أَوْ خَبَّازًا عَلَى أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ، وَمَعْنَاهُ: أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَاتِبِ وَالْخَبَّازِ: أَعْنِي الِاسْمَ الَّذِي يُشْعِرُ بِالْحِرْفَةِ، فَإِنْ فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَانَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ بِأَنْ يَكْتُبَ شَيْئًا يَسِيرًا نَاقِصًا فِي الْوَضْعِ أَوْ يَخْبِزُ قَدْرَ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ الْهَلَاكَ بِأَكْلِهِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْهُ كَمَا ذَكَرَ وَامْتَنَعَ الرَّدُّ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ بِأَنْ يُقَوَّمَ الْعَبْدُ كَاتِبًا وَغَيْرَ كَاتِبٍ فَيَرْجِعُ بِالتَّفَاوُتِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي بِالشَّرْطِ لَا بِالْعَقْدِ، وَتَعَذُّرُ الرَّدِّ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ لَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ عَلَى الْبَائِعِ فَكَذَا هَذَا، وَالصَّحِيحُ مَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ وَصْفَ السَّلَامَةِ كَمَا فِي الْعَيْبِ.
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعُ بَعْدَ مُدَّةٍ فَقَالَ الْمُشْتَرِي: لَمْ أَجِدْهُ كَاتِبًا وَقَالَ الْبَائِعُ سَلَّمْته إلَيْك كَاتِبًا وَلَكِنَّهُ نَسِيَ عِنْدَك وَالْمُدَّةُ تَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَنْسَى فِي مِثْلِهَا فَالْقول لِلْمُشْتَرِي.
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْقول لِمَنْ تَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ وَأَنَّ الْعَدَمَ فِي الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ أَصْلٌ وَالْوُجُودُ فِي الصِّفَاتِ الْأَصْلِيَّةِ، وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ بِانْفِرَادِهِنَّ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ حُجَّةٌ إذَا تَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ، وَإِنْ لَمْ تَتَأَيَّدْ تُعْتَبَرُ فِي ثُبُوتِ تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ لَا فِي إلْزَامِ الْخَصْمِ.
إذَا عُرِفَ هَذَا، فَإِذَا اخْتَلَفَا قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ فَقَالَ الْمُشْتَرِي: لَيْسَ بِهَذَا الْوَصْفِ وَقَالَ الْبَائِعُ: هُوَ بِهَذَا الْوَصْفِ لِلْحَالِ يُؤْمَرُ بِالْخَبْزِ وَالْكِتَابَةِ، فَإِنْ فَعَلَ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ وَلَا يُرَدُّ وَلَا يُعْتَبَرُ قول الْعَبْدِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ: سَلَّمْته بِهَا وَنَسِيَ عِنْدَك وَالْمُدَّةُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ ذَلِكَ فَالْقول قول الْمُشْتَرِي وَيَرُدُّهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبْضِهِ وَدَفْعِ الثَّمَنِ حَتَّى تُعْرَفَ هَذِهِ الصِّفَةُ.
وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ ثُمَّ اخْتَلَفَا قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ فَقَالَ الْبَائِعُ: بِكْرٌ لِلْحَالِ وَقَالَ الْمُشْتَرِي ثَيِّبٌ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُرِيهَا النِّسَاءَ، فَإِنْ قُلْنَ بِكْرٌ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ بِلَا يَمِينِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُنَّ تَأَيَّدَتْ هُنَا بِمُؤَيِّدٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْبَكَارَةُ، وَإِنْ قُلْنَ ثَيِّبٌ لَمْ يَثْبُتْ حَقُّ الْفَسْخِ بِشَهَادَتِهِنَّ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ حَقٌّ قَوِيٌّ وَشَهَادَتُهُنَّ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لَمْ تَتَأَيَّدْ بِمُؤَيِّدٍ، لَكِنْ يَثْبُتُ حَقُّ الْخُصُومَةِ لِتَتَوَجَّهَ الْيَمِينُ عَلَى الْبَائِعِ، إذْ لَا بُدَّ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ، وَالْخُصُومَةُ حَقٌّ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ لِذَاتِهَا فَجَازَ أَنْ تَثْبُتَ بِشَهَادَتِهِنَّ، فَيَحْلِفُ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ لَقَدْ سَلَّمْتهَا بِحُكْمِ الْبَيْعِ وَهِيَ بِكْرٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بِعْتهَا وَهِيَ بِكْرٌ، فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَلَفَ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا تُرَدُّ بِشَهَادَتِهِنَّ قَبْلَ الْقَبْضِ بِلَا يَمِينٍ مِنْ الْبَائِعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْقَاضِي مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يَثِقُ بِهِنَّ لَا يَحْلِفُ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ لَمْ يَثْبُتْ لِلْحَالِ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الْخُصُومَةِ فَلَا يَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَى الْبَائِعِ فَتَلْزَمُ الْجَارِيَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَى أَنْ يَحْضُرَ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يُوثَقُ بِهِنَّ، وَلَوْ قَالَ: بِعْتهَا وَسَلَّمْتهَا إلَيْك وَهِيَ بِكْرٌ وَزَالَتْ بَكَارَتُهَا فِي يَدِك فَالْقول قولهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هِيَ الْبَكَارَةُ، وَلَا يُرِيهَا الْقَاضِي النِّسَاءَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مُضَرٌّ بِزَوَالِ الْبَكَارَةِ، وَإِنَّمَا يَقول زَالَتْ فِي يَدِك.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِي الْبَيْعِ مَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ فَوَجَدَهُ بِخِلَافِهِ فَتَارَةً يَكُونُ الْبَيْعُ فَاسِدًا وَتَارَةً يَسْتَمِرُّ عَلَى الصِّحَّةِ وَيَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، وَتَارَةً يَسْتَمِرُّ صَحِيحًا وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ مَا إذَا وَجَدَهُ خَيْرًا مِمَّا شَرَطَهُ وَضَابِطُهُ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى فَفِيهِ الْخِيَارُ، وَالثِّيَابُ أَجْنَاسٌ: أَعْنِي الْهَرَوِيَّ وَالْإِسْكَنْدَرِيّ وَالْمَرْوِيَّ وَالْكَتَّانَ وَالْقُطْنَ.
وَالذَّكَرُ مَعَ الْأُنْثَى فِي بَنِي آدَمَ جِنْسَانِ، وَفِي سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ جِنْسٌ وَاحِدٌ.
وَالضَّابِطُ فُحْشُ التَّفَاوُتِ فِي الْأَغْرَاضِ وَعَدَمُهُ، فَإِنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ إسْكَنْدَرِيٌّ فَوَجَدَهُ بَلَدِيًّا، أَوْ هِنْدِيٌّ فَوَجَدَهُ مَرْوِيًّا، أَوْ كَتَّانٌ فَوَجَدَهُ قُطْنًا، أَوْ أَبْيَضُ مَصْبُوغٌ بِعُصْفُرٍ فَإِذَا هُوَ بِزَعْفَرَانٍ، أَوْ دَارًا عَلَى أَنَّ بِنَاءَهَا آجُرٌّ فَإِذَا هُوَ لَبِنٌ، أَوْ عَلَى أَنْ لَا بِنَاءَ وَلَا نَخْلَ فِيهَا فَإِذَا فِيهَا بِنَاءٌ أَوْ نَخْلٌ، أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَشْجَارِهَا مُثْمِرَةٌ فَوَجَدَ وَاحِدَةً غَيْرَ مُثْمِرَةٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ فَإِذَا هُوَ جَارِيَةٌ، أَوْ فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.
وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا مُوَلِّدَةُ الْكُوفَةِ فَإِذَا هِيَ مُوَلِّدَةُ بَغْدَادَ، أَوْ غُلَامٌ عَلَى أَنَّهُ تَاجِرٌ أَوْ كَاتِبٌ فَإِذَا هُوَ لَا يُحْسِنُهُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ فَحْلٌ فَإِذَا هُوَ خَصِيٌّ أَوْ عَكْسُهُ أَوْ أَنَّهَا بَغْلَةٌ فَإِذَا هُوَ بَغْلٌ أَوْ نَاقَةٌ فَكَانَ جَمَلًا أَوْ لَحْمُ مَاعِزٍ فَكَانَ لَحْمَ ضَأْنِ أَوْ عَلَى عَكْسِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَهُ الْخِيَارُ وَلَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ بَغْلٌ فَوَجَدَهُ بَغْلَةً أَوْ حِمَارٌ أَوْ بَعِيرٌ فَإِذَا هُوَ أَتَانٌ أَوْ نَاقَةٌ أَوْ جَارِيَةٌ عَلَى أَنَّهَا رَتْقَاءُ أَوْ حُبْلَى أَوْ ثَيِّبٌ فَإِذَا هِيَ بِخِلَافِهِ جَازَ وَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ أَفْضَلُ مِنْ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ وَيَنْبَغِي فِي مَسْأَلَةِ الْبَعِيرِ وَالنَّاقَةِ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْبَوَادِي الَّذِينَ يَطْلُبُونَ الدَّرَّ وَالنَّسْلَ أَمَّا أَهْلُ الْمُدُنِ وَالْمُكَارِيَةُ فَالْبَعِيرُ أَفْضَلُ وَلَوْ بَاعَ دَارًا بِمَا فِيهَا مِنْ الْجُذُوعِ وَالْخَشَبِ وَالْأَبْوَابِ وَالنَّخِيلِ فَإِذَا لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي.